من باب شقة قديمة في عمارة متداعية بحي صغير في قلب العاصمة تونس يسمى “سيسيليا الصغيرة”، تطل منية للشارع بعينين خائفتين من قدوم مرسول جديد من قبل المحكمة ينذرها بإخلاء تلك العمارة المتشققة.
نصف وجهها مخفي وراء باب الشقة تتحدث منية بحذر قائلة إنها أصبحت تعيش على وقع الشعور بالخوف بسبب تحذيرها من شركة بلجيكية ربحت حكما قضائيا لإجبار المتساكنين على إخلاء العمارة لهدمها.
بسبب ضيق الحال وانخفاض قيمة الإيجار تقيم منية منذ أكثر من عقدين بهذا المكان مع زوجها وأبنائها الثلاثة. وكغيرها من المتساكنين بهذا الحي الذي كان مملوكا من قبل معمرين أجانب (من فرنسا وإيطاليا ومالطا)، تشعر منية بالغبن لعدم امتلاكها مسكن لائق مما دفعها للإقامة بعمارة آيلة للسقوط قد تسقط بأي لحظة.
ويحوي الرصيد العقاري لأملاك الأجانب في تونس على أكثر من عشرة آلاف شقة ومحلا تجاريا ما تزال على ذمة أصحابها الأجانب. وتشكو أغلب هذه العقارات القديمة من تدهور بنيتها الأساسية وباتت مهددة بالانهيار.
وحي “سيسيليا الصغيرة” وسط العاصمة يشكل نموذجا بارزا للبنايات القديمة التي أصبحت تشكل خطرا على متساكنيها بسبب تشقق جدرانها وتآكل أعمدتها الحديدية الصدئة. ومع ذلك يعيش متساكنوها حياتهم العادية.
ورغم حركة السير الكثيفة يبدو هذا الحي خاليا ومهجورا ويزداد المشهد كسادا بانتصاب عمارات متآكلة بدأت أجزاءها الخارجية تنهار وبالكاد يشاهد المارة علامات ترميم بسيطة بالاسمنت زادت في تشويه البنايات.
شبح التشرد
كغيرها من المتساكنين بتلك البنايات التي تشكل حزاما دائريا للعاصمة تونس عجزت منية على الحصول على شقة تؤجرها بسعر يناسبها بينما أصبحت فكرة اقتناء شقة تحميها وزوجها وأولادها الثلاثة من التشرد “مستحيلة”.
يعمل زوج منية نادلا بإحدى المقاهي وبسبب تدني راتبه عجز عن تحصيل قرض ينكي يمكنه من اقتناء شقة بسبب غلاء العقارات، مما دفعه وعائلته للبقاء بنفس الشقة القديمة لانخفاض سعر إيجارها مقارنة بغيرها.
وترفض زوجته منية الخروج من شقتها رغم إنذارها مرارا من قبل المحكمة بإخلاء العمارة مع غيرها من المتساكنين. وتقول بشيء من الغضب “السلطات تسعى لإجبار على إخلاء البنايات دون أن توفر لنا بدائل”.
ويتقاسم معها هذا الموقف جيرانها بنفس العمارة المتداعية. وتقول جارتها لمراسلون “إنهم يزعمون بأن المباني آيلة للسقوط لدفعنا للخروج منها ونحن نقول إنها على ما يرام وكل ما تستحقه هو بعض الترميم والصيانة”.
نية مبيتة
وملف عمارات الأجانب التي تملأ الأحياء القديمة بقلب العاصمة تونس بقي يراوح مكانه دون حلول تذكر من قبل السلطات، بحسب ماجد بوستة رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الشاغلين لأملاك الأجانب.
ويؤكد بأنه لا توجد إرادة سياسية لحلحلة الملف، كاشفا عن وجود “نية مبيتة” لإيصال أملاك الأجانب إلى وضعية البنايات المتداعية لإجبار السكان على مغادرتها ثم هدمها وتحويلها إلى مركبات تجارية تباع بأثمان “باهظة”.
وتساءل هذا الناشط الجمعياتي عن دور المعهد الوطني للتراث والبلديات في المحافظة على هذه البنايات التي صممت وفق رؤية هندسية رائعة، بحسب تعبيره.
ويقول “كان يفترض على الدولة أن تحافظ على هذه المباني القديمة من خلال ترميمها واستغلالها في المسالك السياحية بفضل مميزاتها المعمارية العتيقة”.
ملف معقد
والمتجول بأرجاء الأحياء القديمة بالعاصمة تونس يلاحظ تواجد تحف معمارية على غاية من الجمال رغم آثار تشقق الجدران بفعل الزمن. وتحمل عديد البنايات التي كانت مملوكة للأجانب بصمة الحقبة الفرنسية.
وحول رأي الجهات الرسمية في الموضوع يقول محمد الصايغي مدير إدارة أملاك الأجانب في وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية إن “ملف أملاك الأجانب معقد للغاية ولم تقع تسويته بالشكل المطلوب حتى الآن”.
ويؤكد لمراسلون بأن “وزارة أملاك الدولة بذلت جهودا كبيرة لحلحة هذا الملف لكن هناك الكثير من الإشكالات العقارية حالت دون حسن التصرف والتدخل لإنجاز المطلوب خاصة أمام تدهور وضعية البنايات”.