“انا مانبيش نقرا” بهذه العبارة رد عيسى زايد (13 عاماً) حين سألناه عن سبب توقفه عن الدراسة، رافضاً شرح الأسباب التي تكفلت أمه بإيضاحها، وهي أنه تعرض للضرب المبرح على يد مدير مدرسته أواخر نوفمبر 2016.
تقول ثريا ابراهيم والدة عيسى – وهي تعمل مدرسة في ذات المدرسة التي تعرض فيها للضرب – إن ابنها الذي تذهب برفقته يومياً إلى المدرسة اضطر في العام الماضي للوصول متأخراً لعدة أيام متتالية، حيث كانت تجري بعض الصيانة لمنزلها وتتابع عمال الصيانة قبل التوجه إلى عملها، وكانت تعتمد على عيسى ليساعدها وهو ابنها الأكبر بعد وفاة والده منذ ثلاث سنوات.
الإذن لا يشفع
ولكن ثريا تؤكد أنها طلبت الإذن من مدير المدرسة الذي اعتاد أن يضرب كل طالب يتخلف عن حضور الطابور الصباحي، وتجنباً لأن يتعرض ابنها للعقاب الجسدي تحدثت إلى المدير وطلبت إذنه، وفعلاً مرت أيام التأخير الأولى بسلام، قبل أن يأتي يوم تأخر فيه عيسى ليدخل مصادفة باب ساحة المدرسة مع عدد من الطلبة المتأخرين الذين وجب بحقهم العقاب.
تشجع عيسى هنا للحديث وبدأ يروي لـ”مراسلون” تفاصيل ما حدث معه حيث أوقفه المدير هو وزملاؤه في طابور، وطلب منهم أن يتجهوا للحائط وهو “يسب ويشتم بألفاظ شتى”، ثم بدأ يضرب كلاً منهم أربع ضربات على يديه يلحق بعدها بالطابور، “كان الكل خائفين بعضهم يحاول تدفئة يديه قبل الضرب بالنفخ فيهما تارة؛ وبوضعهما تحت إبطيه تارة أخرى، وبعضهم يؤمل نفسه بعفو نعلم أنه لايقع أبداً”.
لكن عيسى رغم ذلك كان مطمئناً فوالدته استأذنت له والمدير يعلم بأسباب تأخره، “ولكن حين وصلني الدور تفاجأت به يطلب مني فتح يدي”، عندها حاول عيسى أن يذكّر المدير بأمره فلعل خطأ ما قد حصل، “لم أعلم كيف سقطت على الأرض ووجدته فوقي يركلني بحذاءه بينما يحاول المدرسون إبعاده عني، وأخذني مدرس الرياضة إلى حجرة المدرسين وعاد ليكمل الطابور الصباحي”.
استغل الفرصة
يتابع عيسى روايته بالقول “كانت المدرسة كلها مشغولة بإتمام الطابور حين استغل المدير الفرصة وجاء لحجرة المدرسين التي لم يكن بها غيري، أغلق الباب بالمفتاح وخلع جاكيته وقال “اليوم ماحد يفكك مني”!.
يقول عيسى “لم أعد أحس أين تأتيني الضربات، ولكن كنت أسمع صوت المدرسين وهم ينادون المدير من وراء الباب ويطلبون منه فتحه، فخرج بعد دقائق وتركوني في الحجرة بقية اليوم”.
في تلك الأثناء حضرت والدة عيسى إلى المدرسة ولم يخبرها أحد بما وقع لابنها ولا حتى المدير الذي التقت به أثناء عملها، “بعد أن أتممت حصصي بالصدفة دخلت لحجرة المدرسين لأجده ملقىً بجانب المكتب وهو يبكي، فأخذته فوراً إلى المستشفى وكان في حالة صعبة”.
سكوت عن الحق
أوضح التقرير الطبي أن عيسى تعرض لكدمات قوية في عدة أجزاء من جسمه، كما تسبب الضرب المتواصل على ظهره بحدوث ضغط كبير على الفقرات السفلى من عموده الفقري، ناهيك عن الانتفاخات التي أصابت وجهه، وخصوصاً تحت العين وفي منطقة الفم.
تقول ثريا “أخذت علاج ابني وتوجهت للمدرسة وفي نيتي أخذ حق طفلي ولكن هناك اجتمع الكل وطلبوا مني أن لا أكبر الموضوع، خصوصاً أن المدير شخص متنفذ ولن أستفيد شيئاً إذا أثرت زوبعة ضده، بل ربما يتسبب في خسارتي لعملي الذي يعيلني وأطفالي”.
نجح زملاء ثريا بالتأثير عليها وتخويفها كي تتراجع وتسكت عن حق ابنها، وخاصة أنه لا يوجد قانون يحميها ويحمي الأطفال من التعرض للعنف في المدارس، ولكنها فشلت في إقناع عيسى بمواصلة دراسته حيث يرفض حتى اليوم أن يدخل مدرسة تستخدم العقاب الجسدي كوسيلة لضبط الطلاب.
ليس عيسى الوحيد الذي عاش هذه المأساة، فظاهرة العنف المدرسي واقع تعيشه مدارس سبها والجنوب على الدوام، وزادت حدته في السنوات الأخيرة برغم وجود قرارات تمنع الضرب والعنف اللفظي والجسدي تجاه الطلبة في كل المراحل الدراسية.
حيث يقول الطالب بالصف الثامن معاذ البكوش إن الضرب هو “العقاب الجاهز لمخالفات عديدة، كالتأخر الدراسي أو إهمال الواجبات أو الخلاف بين طالبين، او الرسوب أو عدم الالتزام بالزي المدرسي أو التأخر عن الطابور الصباحي”.
ضغوط مجتمعية
يعتقد محمد يونس عضو هيئة التدريس بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة سبها أن الضرب الذي يتعرض له الطلبة يعتبر آخر حلقات الضغوط التي يعيشها المجتمع، ففي ظل التزامات مالية لاتنتهي وارتفاع الأسعار وقلة السيولة وانعدام الأمن “يعيش المدرس أو المدرسة هنا ضغوطاً مختلفة، قد نضيف عليها تدني مدخوله أو عدم حصوله عليه بانتظام؛ وكل ذلك يجعله قريباً للعنف مع الطالب”، وهنا حسب يونس يأتي دور الجهات المختصة بوضع برامج دعم نفسي للمدرسين وإكسابهم مهارات جديدة.
هذا الحديث يرفضه عبد الوهاب الناجم وهو أحد المدرسين الذين التقيناهم؛ فهو يعتبر أنه “ينتقص من قدر المعلمين ويضعهم في خانة المرضى النفسيين”؛ ويعزو الناجم انتشار الضرب إلى ما وصفه بـ”سوء أخلاق الطلبة في الآونة الأخيرة وتطاولهم على مدرسيهم”، وهو أمر لا يُعالج في نظره إلا عن طريق الضرب.
في المقابل ترى المدرسة فادية أحمد أن المعلم إذا ضرب الطالب فهو يعلن عن فشله في إقامة عملية تربوية تعليمية ناجحة، فالضرب “يفاقم مشكلة سوء خلق الطالب إن وُجدت ولا يحلها، هنا يمكن أن نسأل عن دور مكاتب التعليم في رفع قدرات المدرسين ومساعدتهم على اكتساب مهارات جديدة وطرق تعليم وتربية حديثة بعيدة عن العنف بشقيه اللفظي والجسدي”.
لا أحد يشتكي
إلى أن يحدث ذلك يبقى الضرب في المدارس مستمراً وتتكرر حالات كثيرة كحالة عيسى، فمن المسؤول عنها؟، سؤال يجيبه محمد اسماعيل مدير الشؤون الإدارية بمكتب التربية والتعليم بسبها، والذي حمّل أولياء الأمور بعض المسؤولية، فهم حسب قوله “لا يتقدمون بشكاوى ضد من يضرب أولادهم، فالمكتب لم يستقبل أية شكوى بخصوص الضرب رغم أنه من حق الطالب تقديم الشكوى ضد المدرس الذي يمارس العنف ضده، وعقوبة ذلك قد تصل إلى حد الإيقاف والتحقيق والفصل من الخدمة”.
يقول حمد بالعالم وهو عضو جمعية أهلية في طور التأسيس للتوعية ضد العنف المدرسي سيتم إشهارها الشهر المقبل، بأن “أولياء الأمور في سبها لا يتابعون قضايا العنف المدرسي ضد أبنائهم فبعضهم يمارسه في البيت، وبعضهم فقد الثقة في وجود إجراءات تردع المدرّس أو المدير”.
واستشهد بالعالم على كلامه بحالات عنف كثيرة تعرض فيها الطلاب للضرب المبرح في عدة مدن بالجنوب، وانتشرت فعلاً أحداثها وتفاصيلها سواءً عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أو الوسائل الإعلامية ولم تتم معاقبة مرتكبيها.
محاولات مدنية
ورغم هذا الواقع المرّ، ظهرت في المدينة عدة مؤسسات مجتمعية حاولت تغيير الوضع وإكساب المدرسين مهارات تغنيهم عن الضرب؛ فكان تجمع معلمي الجنوب الذي التقينا برئيسه فتحي الفلاني؛ يقول إن التجمع أعطى دورات مكثفة في عدة في مدن بوادي الآجال ومرزق وتراغن وغات والقطرون وسبها، موضحاً أن هذه الدورات كانت تجمع المدرسين وأولياء الأمور في جلسات استماع مطولة، كلّلت بالنجاح في إيجاد صيغ تربوية بعيدة عن الضرب.
وكذلك أقدمت بعض المدارس على إعلان إلغائها للضرب كوسيلة تعليمية، وهي مدرسة نور العلوم بسبها، ومدرسة المعفن من ضواحي مرزق، ومدرسة التناحمة بأوباري، تقول مديرة مدرسة نور المعرفة فاطمة التمتام إن المدرسة غيرت أسلوب الثواب والعقاب الجسدي إلى أسلوب التكريم والتحفيز، “فصار هناك كرسي المتميزين الذي يتم خلاله تكريم الطلبة المجتهدين في دراستهم وخلقهم، بطريقة يعزز التنافس بين الطلبة في الدراسة والخلق الحسن”؛ تقول التمام إن المبادرة لاقت استحسان أولياء الأمور ويعملون على إنجاحها.
لكن الثقة في تطبيق هذا الكلام فقدها عيسى بعد حادثة العنف التي تعرض لها، وحتى تضع الأجهزة المعنية حداً لهذا العنف سيظل بانتظار إيجاد مدرسة تحترم إنسانيته.