مع بزوغ كل فجر يخرجصالح بريكاو قاصدا آبار المياه خارج مدينة سبها، والتي تبعد 20 كلم تقريبا عنها، ليملأ خزانه المتحرك ويبدأ يوما جديدا يمارس فيه مهنة بيع الماء لسكان مدينته.

نقص السيولة

تبدأ رحلة بريكاو اليومية إلى مكان جلب المياه صباحا، حيث شوارع المدينة خالية من كل شيء، وأبواب محلاتها مغلقة، هدوء لا يقطعه إلا صوت شاحنته، هي مهنة محفوفة بالمخاطر إذا ما علمنا ماقد يلحق بصالح (30 عاما) وأقرانه من أذى على يد مسلحي السيارات معتمة الزجاج، التي تسيطر على المشهد الأمني بسبها(1200 كلم جنوب طرابلس) منذ سنوات.

يقول “بريكاو” الذي يشغل وظيفة أمنية بمديرية الأمن الوطني بسبها لـمراسلونإنه اضطر إلى البحث عن مصدر رزق آخر بسبب نقص السيولة المالية في المصارف الليبية وتعذر الاستفادة من المرتب، ولذلك فقد امتهن بيع الماء لسكان المدينة، حيث يقدّم خدمة ملء خزانات المنازل في الفترات التي تشهد انقطاع المياه عنها، سواء بسبب الكهرباء التي تنقطع لساعات، أو بسبب عطب مضخات الآبار داخل المدينة والذي يتكرر على الدوام.

رحلة الموت

تعوّد صالح على هذا المشهد اليومي، ولكن ومع ذلك يلازمه الخوف كلما تحركت شاحنته من أمام بيته بسبب تفكيره في المجهول الذي قد يصادفه في الطريق، فهو لم ينس ذلك اليوم الذي تعرض فيه أحد رفاقه لإطلاق نار عليه في محاولة للسطو المسلح عليهما.

يرويبريكاو كيف خرج ذات يوم في الصباح الباكر رفقة صديقه كلٌ في سيارته، يقولكنا نريد أن نقصّر الطريق ويؤنس بعضنا الآخر، معتقدا أن سيارات العصابات المعتمة لا تبادر بمهاجمة سيارتين في آن واحد.

ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد فاجأتهم سيارة معتمة ولحقت صديقه وطلبت منه التوقف، ولكنه رفض وحاول الإفلات منها، لم يفكر بريكاو كثيرا وقتها، وحاول الفرار بعيدا،لم أفكر حتى في إنقاذ صديقي الذي أُطلق النار عليه فسقط قتيلا،رأيته مضرجا في دمائهولكن لم يكن بوسعه فعل أي شئ لإنقاذه يقول بريكاو.

تركت هذه الحادثة التي وقعت منتصف أغسطس عام 2016 أثرا واضحا في نفس صالح بريكاو، ولكنها لم تنجح في إقناعه بترك مهنة جلب الماء التي تدر عليه دخلا جيدا.

مكاسب خيالية

تعيش المدينة على 80 بئر مياه جوفية، تشكل شبكة مياهها العامة، ولكن أغلب هذه الآبار تتعطل بشكل متكرر في الصيف، بسبب تذبذب التيار الكهربائي وتكرر أعطاب المضخات، وهو أمر تكيّف معه أهل المدينة، فتجد أغلب المنازل تضم خزان مياه أرضيا، تبلغ سعته 20 ألف لتر، إضافة للخزان الاعتيادي الذي تبلغ سعته 1000لتر.

خالدالعالم (29 عاما) هو تاجر مياه آخر، يروي لـمراسلون تفاصيل شراء وبيع المياه وما يواجهه يوميا، فهو يضظر للذهاب أكثر من مرة خارج المدينة لتعبئة المياه من تجار آخرين، يملكون مضخات ضخمة ويسيطرون على آبار المياه، وعند عودته يحدث الاختلاف بين زبائنه على الدوام، فالكل يريد أن يملأ خزانه بأسرع وقت، ومع انتشار السلاح قد يلجأ بعضهم إلى التلويح به كورقة ضغط على بعضهم أو على خالد.

يضيف العالم أن سعة خزان شاحنته تبلغ 20 ألف لتر، يملؤها من الآبار الخارجية بعشرين دينارا (15 دولار أمريكي تقريبا)، وبدوره يبيع 1000 لتر بعشرين دينارا، لذا فالعملية مربحة وتدر مالا وفيرا يقول العالم.

هو مكسب يستحق المخاطرة يقول بريكاو بابتسامة عريضة، ويتابع أنه أصبح يعرف كيف يتعامل مع هذا الوضع الخطير، حيث قام بتعتيم زجاج شاحنته، واقتنى سلاحا شخصيا ليخيف به من يحاول اعتراضه رغم أنه لا يحب السلاح، وأصبح يسلك طرقا يعتقد أنها اكثر امانا، وغيّر توقيت خروجه ليواءم بداية حركة شوارع المدينة.

التجار ملوكا

أصبح تجار المياه ملوكا بحسب وصف المواطنحمد الكيلاني (35سنة) الذي يدفع المال على مضض لـبريكاو مقابل توفير المياه.

ويضيف الكيلاني بغضب أن أصحاب الشاحنات يستغلون حاجة الناس إليهم، فيرفعون أسعارهم على الدوام دون أي اعتبار، ومع ذلك نحتاج إليهم باستمرار“.

ويردف أن حاجة سكان سبها الكبيرة للمياه جعل التجار ينتقون زبائنهم بشكل غير مرض، فمن يدفع أكثر تصله المياه، ما جعل بعض محدودي الدخل من أهل المدينة يضطرون للخروج وتعبئة المياه بأنفسهم غير آبهين بالخطر الذي يسمعون عنه قصصا كثيرة.

بريكاو يبرر تغير الأسعار وارتفاعها بعِظمحالات الخطر أثناء جلب المياه، كما -وحسب كلامه- فإن بعض الأحياء تكون بعيدة عن مركز المدينة ما يجعل تكلفة الذهاب إليها عالية.

يطريقة أو بأخرى يعزز رئيس قسم التحري والضبط بمركز شرطة القرضة بسبهايحيى شوايل تبريرات بريكاو، حيث أكد أن المركز وثّق خلال 4 أشهر أكثر من 13 اعتداء طال سائقي شاحنات المياه.

شوايل الذي أوضح أنه لا وجود لأية قوانين تمنع جلب المياه قال إن مع ازدياد الطلب على الماء يزداد إقبال الشباب على العمل في جلب المياه وهذا شيء جيد بزعمه أن ذلك يوفر فرص عمل للعاطلين.

لا يوجد حل

وبين الأخذ والرد بين التجار وزبائنهم، تقف الشركة العامة للمياه والصرف الصحي عاجزة عن تقديم حل جذري لمشكلة المياه المتفاقمة مؤخرا، وهنا يقول “سالم الدندون” مدير الشؤون الإدارية بالشركة لـمراسلون إن أزمة المياه ستستمر ما لم تنته أزمة الكهرباء، فأغلب المضخات لا تعمل في ظل تذبذب التيار الكهربائي، وبالرغم من أن الشركة تحاول معالجة الوضع وتوفير مضخات أكثر قدرة على التحمل؛ إلا أن ذلك يصطدم دوما بنقص السيولة وصعوبة تنفيذ الرؤية بسبب العراقيل الإدارية بحسب الدندون.

تحولت المياه في سبها إلى مصدر رزق للبعض وموضع استغلال للبعض الآخر، ولعلّ مشهد المياه في الجنوب لن يشهد تغيرا على المدى القريب يقول الدندون، وذلك في حال ما استمرت نفس السياسات في التعامل مع المشكلة بشكل آني وعدم العمل على تقديم وتفعيل حلول جذرية، وإلى أن يحدث ذلك تتواصل رحلات بريكاو وزملاؤه خارج المدينة وبين شوارعها وهم يبيعون المياه في مدينة تقبع في قلب الصحراء الليبية.