في بلدة صغيرة في محافظة المنيا بصعيد مصر كانت أميرة -اسم مستعار- ذات الخامسة عشر ربيعا تستعد للخروج من بيتها للذهاب إلى أحد الدروس المدرسية، عندما نادت عليها والدتها طالبة منها لقاء شخص في صالون البيت، فوجئت أميرة أنه لقاء مدبر لرؤية عريس جاء لخطبتها، غضبت أميرة ورفضت الدخول، ورفضت الزيجة، رفض نتج عنه ضرب واهانة للفتاة ثم إنتهي  بقرار إحتجازها في البيت ومنع خروجها أو تواصلها مع أي شخص لأسبوعين كاملين.

***

“احتجاز المرأة في البيت وحرمانها من الحرية هو نوع من أنواع العنف الأسري النفسي ضد المرأة” تقول د. هالة عثمان رئيس مركز “عدالة ومساندة” لمراسلون. وبحسب التعريف الذي أقره الاعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة والذي تبتنه الجمعية العامة في ديسمبر 1993، ووافقت عليه جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، عرفت الجمعية العنف ضد المرأة بأنه: “أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أي أذى أو معاناة جسمية أو جنسية أو نفسية للمرأة بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء أوقع ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”

***

“أبسط وأقل مشكلة بيني وبين أهلي يكون عقابي عليها الاحتجاز في البيت، بلا هاتف أو فيس بوك أو اي تواصل بيني وبين  صديقاتي”.. تقول أميرة، وتتابع: “معظم الاهالي في الصعيد يعتقدون أن حبس الفتيات هو نوع من أنواع التأديب، تقريبا معظم  صديقاتي تم حبسهم منزليا في فترة من فترات عمرهم”

***

بحسب الدراسة التي أجراها الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء في يونيه 2017 العنف النفسي بكل أشكاله هو الاكثر شيوعا من العنف البدني أو الجنسي  في مصر حيث بلغت نسبة النساء اللاتي تعرضن للعنف النفسي 42,5% .

“احتجاز الفتيات أو الزوجات من قبل الاهل أو الزوج هو نوع من أنواع العنف النفسي.” تقول رئيس مركز عدالة ومساندة “ليس هناك احصائية معلنة أو دقيقة لعدد الفتيات اللاتي يحتجزن في بيوت أهليهن” مشيرة  أن معظم الفتيات التي تحاول الاستغاثة بالمراكز والمؤسسات الدعمة للمرأة عن طريق الفيس بوك أو الهاتف الخاص بهذه المؤسسات لا ترضي بكتابة  شكوي أواعطاء معلومات مفصلة عنها خوفا من رد فعل الاهل، كل ما تريده منا هذه الفتيات أماكن تهرب اليه ووعمل تعيش منه، موضحة أن الاحصائيات الرسمية تشمل العنف النفسي بأنواعه المختلفة وليس الاحتجاز النفسي فقط.

***

بعد عناء أستمر عشر سنوات من الاحتجاز في البيت، ومنع أميرة من حريتها لأكثر من 30 مرة بشكل متقطع، رضخت أميرة الي مطالب أهلها بالزواج من العريس الذي يريدونه، ” أصعب مرة احتجزت في البيت هي أخر مرة وانا عمري 25 سنة، احتجزت شهرين كاملين، عندما شعرت أن والدتي أصابها المرض الشديد تخوفا من بقائي بدون زواج، وبعد أن تم استهلاك طاقتي وصحتي في الحجز المنزلي المتقطع والمستمر وافقت علي الزواج” قالت أميرة.

***

في نفس الوقت الذي رضخت فيه أميرة الفتاة الصعيدية لمطالب أهلها بعد حبس إستمر شهرين كاملين في البيت، كانت “فتون” ذات الرابعة عشر، من المنصورة،  تبدأ رحلتها في الحبس المنزلي من قبل والدها، نتيجة نقاشها معه حول خلعها للحجاب، تقول فتون: “والدي كان يريد أن أرتدي الحجاب ولا أكون صداقات مع الجنس الاخر ولا أحمل هاتف، وفي كل مرة أتناقش فقط معه، كان يبدأ في اهانتي وضربي، واحتجازي في البيت بالاسابيع، لا أذهب لأي مكان سوي المدرسة، وفي بعض الاحيان كان يجبرني علي عدم الذهاب الي المدرسة”.

***

تقول د. الفت علام استشاري العلاج النفسي والباحثة في مؤسسة “نظرة” للدراسات النسوية “لا يعتقد الأهل  في المجتمع المصري أن إحتجاز المرأة  في المنزل عنف ضدها، لكن هناك تصور في الثقافة المجتمعية أنه نوع من أنواع الحماية، فالمرأة في نظر المجتمع كائن ضعيف لا يستطيع اتخاذ اي قرار أو حماية نفسه، فيكون الإجراء الأسهل لحمايتها هو حبسها في المنزل”

***

لم تستحمل فتون الحبس كثيرا وهربت الي بيت جدها، هناك كان أقصي حريتها عندما يتركها تذهب الي الدروس المدرسية ” الدروس الخصوصية عند جدي كانت جزء ترفيهي، انفراجة من السماء” تقول فتون.

كثرت الاحتجاز المنزلي وطول مدة الحبس لفتون أدي اصابتها المستمرة بالدوار، أو الشعور بالاختناق والضيق، وانخفاض ضغطها والذهاب باستمرار للأطباء . وهو الأمر الذي أدي إلى هروب فتون والاستقلال بعيدا عن أسرتها بعد عذاب الاحتجاز المتقطع  في المنزل لمدة عاميين كاملين.

***

طبقا لدراسة بمنظمة الصحة العالمية  حول الاثار الصحية للعنف  ضد المرأة بكل أشكاله، الإصابة بالاكتئاب واضطرابات الإجهاد اللاحقة للرضوخ، ومشاكل في النوم ،واضطرابات في الأكل، ومحن عاطفية ومحاولات انتحار.

تري مستشارة  العلاج النفسي أن احتجاز المرأة في البيت لا يعطي أي نتائج ايجابية، خاصة في عصرنا الحالي المحاط بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي من كل جانب، اذا كانت الفتاة محتجزة لمدة طويلة  ثم خرجت للمجال العام فجأة، يظهر لديها شعور بالرغبة الشديدة في  تعويض كل ما فاتها من تجارب حياتية اثناء  الاحتجاز المنزلي، فتتولد لديها سلوكيات غير سوية، أما اذا تزوجت الفتاة مباشرة بعد احتجازها طويلا، فلن تستطيع المرأة غالبا أن تمارس حياتها بشكل طبيعي، وستتعامل بشكل عصبي وعنيف مع الزوج أو الاولاد، كما ستظهر عليها أعراض جسدية مثل الصداع المستمر والنوم الكثير.

***

“كرمة” عمرها 22 عاما من المنصورة تعرضت للاحتجاز من والدها ومن زوجها، كرمة تتذكر الاسابيع التي كانت محرومة فيها من الاقتراب والخروج  من باب المنزل بقرار من والدها الذي كان يري أن خروجها اما الي بيت الزوجية أو وفاتها، تقول كرمة كان دائما يردد علي مسامعي جملة منذ أن ظهرت علي جسدي الملامح الانثوية.. “ستخرجين من هذا الباب إما إلى بيت زوجك أو إلى قبرك”.

أطول المرات التي  حبست فيها كرمة كانت ثمانية شهور، و سمح لها والدها بالخروج عندما كانت تستعد للزواج  من العريس الذي وافق عليها والدها، واعتقدت كرمة بزواجها أنها أخيرا ستنال حريتها، لكنها فوجئت أن زوجها يمنعها من الخروج ايضا وعندما سافر خارج البلاد، كان يجعل والدته رقيبا علي حبس زوجته كرمة، وعندما نشبت المشاحنات بين كرمة وحماتها، طلب منها زوجها أن تترك البيت وتذهب لبيت أهلها، رفضت كرمة الرجوع الي سجن والدها وقررت الهرب والاستقلال بحياتها، وتقدمت الي مكتب للمحاماة لطلب الطلاق .

***

“كل حالات الشكوي التي تصل إلى مركزنا تكون من المرأة المتزوجة، وليس الفتيات الغير متزوجات، حيث أن المرأة تظن أن زواجها مهرب من سجن والدها لكنها تفاجئ انها ذهبت الي سجن الزوج، فيبدأ الانفصال  الصامت والنفسي وهو نوع من الاحتجاز النفسي بين الزوجين ثم تبدأ المرأة في  طلب الطلاق” تقول د.هالة عثمان رئيس مركز عدالة، موضحة أن في عام 2016 جاء الي مركزها 65 حالة طلاق منهم 44 حالة بسبب احتجاز من قبل الزوج .وفي 2017 جاءت 49 حالة طلاق منهم 23 حالة بسبب الاحتجاز من قبل الزوج.

***

بحثت كرمة كثيرا عن مكان تهرب اليه من سجن والدها وسجن زوجها، سمعت عن بيوت المعنفات ( وهي بيوت تابعة للدولة تلجأ اليه النساء المعنفات لحمايتها من العنف ) لكن فوجئت برفض المشرفات علي هذه البيوت استقبالها، لان من شروط هذه البيوت أن يكون العنف جسدي وأن تظهر علامات العنف علي وجها او جسدها.

تقول انتصار السعيد رئيس مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون “ثمة تسعة ملاجئ للنساء المعنفات تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، وتخضع لإشراف الوزارة. ومع ذلك، فإن جهودهم محدودة ولا تأخذ بعين الاعتبار ظاهرة وثقافة العنف ضد المرأة، بالاضافة الي عدم تدريب العاملين بالملاجئ بشكل جيد بمسألة العنف ضد المرأة وأنواعه المختلفة.  الأمر الذي يؤدي إلى رفض كثير من المعنفات نفسيا من قبل الأب أو الزوج لأن هذه الملاجئ لا تعترف سوي بالعنف الجسدي الظاهر على المرأة، بالإضافة إلى أنه يسمح بحد أقصي ثلاثة شهور فقط إقامة بهذه الملاجئ”.

***

في  الدستور المصري لعام 2014 المادة الوحيدة التي أشارت إلى العنف ضد المرأة هي المادة 11 والتي نصت على: “…وتلتزم الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف، وتكفل تمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل. كما تلتزم بتوفير الرعاية والحماية للأمومة والطفولة والمرأة المعيلة والمسنة والنساء الأشد احتياجاً.

تقول الباحثة  لبني لطفي عضو مؤسسة المرأة الجديدة: “هناك مواد بالقوانين المصرية تتيح  العنف  ضد المرأة، بل وتبرره، وأبرز هذه المواد المادة 60 من قانون العقوبات التي تنص علي أنه: “لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضي الشريعة الاسلامية” ، هذا الحق في الشريعة الاسلامية  هو حق الولاية للزوج على زوجته أو الأب على ابنته، وعليه يمكن استخدام هذه المادة لتبرير العنف الأسري على أنه حق الزوج في تأديب زوجته ولتبرير جرائم الشرف”.

 

الصورة من عرض مسرحي بعنوان “دائرة حب البغدادي”

تصوير: سيد داود واراب