بعد سيطرة القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني الليبية على مدينة سرت – المعقل الرئيسي لتنظيم داعش في ليبيا – في شهر ديسمبر الماضي، وبعد الضربات المتتالية التي عصفت بالتنظيم في مدن بنغازي ودرنة وصبراتة، ظهرت خلال الشهرين الماضيين تحركات للتنظيم في مناطق جنوب سرت.
كان آخرها استهداف نقطة أمنية للجيش التابع لمجلس النواب في منطقة الفقهاء (حوالي 200 كم جنوب سرت) في 23 من أغسطس الجاري، راح ضحيتها أحد عشر جندياً قطع أعضاء التنظيم رؤوسهم ومن ثم فجروا مبنى نقطة التفتيش وانسحبوا.
وحسب كلام محمد الشريف آمر وحدة التحري والقبض في مدينة ودان الليبية فإن الضحايا من جنود الجيش قدموا في فترة سابقة من غرب البلاد ومن خارج منطقة الجفرة، وليست لديهم “الخبرة الكافية في المنطقة إضافة إلى أن المعلومات تؤكد أنهم لم يكونوا مستعدين للهجوم ولم تكن لديهم أسلحة كافية”.
تحركات داعش تلك طرحت سؤالاً يقف عنده كثيرون “هل يستطيع تنظيم داعش أن يلملم نفسه من جديد في ليبيا على الرغم من خسائره المتتالية؟”، لا سيما مع استمرار حالة الانقسام السياسي وعدم توحيد الجهود العسكرية والأمنية في البلاد.
في الصحراء
مسؤول في المجلس البلدي سرت قال لـ”مراسلون” إن مقاتلي تنظيم داعش ظهروا خلال المدة الماضية في عدة مناطق جنوب سرت مثل بونجيم وقرزة ووادي بي وقرارة جهنم وطريق الجفرة وسوف الجين وطريق اللود الزراعي وجنوب درزة ووادي بي وجنوب النوفلية في بعض الوديان والكهوف في هذه المناطق التي ربما تحتوي على معسكرات للتنظيم، بحسب المصدر.
وأوضح المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه أن هذه المناطق تبعد ما بين 100 – 150 كيلومتراً عن مدينة سرت، مبيناً أن الأجهزة الأمنية لم ترصد أي وجود لتنظيم داعش في المدينة منذ انتهاء عمليات البنيان المرصوص.
مقاتلو التنظيم حسب المصدر يدخلون إلى الصحراء ويعبرون منها إلى هذه المناطق بين فترة وأخرى لإقامة نقاط التفتيش مؤقتة أو للقيام ببعض التحركات الأخرى التي ترصدها الأجهزة الأمنية أو السكان المحليون، وفي 15 من أغسطس الحالي رُصد تحرك لعناصر داعش في منطقة أم الخنفس، حيث أفادت مصادر محلية بأن عناصر التنظيم دخلوا إلى بعض المباني في المنطقة وأخذوا بعض المواد وخرجوا بحسب إفادة سكان محليين لم يتمكنوا من تحديد طبيعة المواد التي أخذها مقاتلوا التنظيم معهم.
تحركات سرية
الناطق الرسمي باسم عملية البنيان المرصوص ووزارة الدفاع في حكومة الوفاق الوطني محمد الغصري قال لـ”مراسلون” إن قوات حكومة الوفاق “ستقاتل تنظيم داعش في أي مكان وأينما وجد” مبيناً أن “التعاون والتنسيق مع قوات الدعم الدولية التي شاركت في العمليات العسكرية ضد التنظيم في سرت مستمرة في مكافحته ورصد تحركاته حتى بعد إعلان تحرير المدينة”.
“ليس للتنظيم حاضنة اجتماعية في ليبيا ولن يتمكن من إعادة تنظيم صفوفه من جديد بطريقة تشكل خطراً على الأمن القومي الليبي” هذا ما قاله الغصري، إلا أنه رفض الإفصاح عن مناطق تواجد بقايا قوات التنظيم “حرصاً على سرية التحركات العسكرية التي تستهدفه” حسب تعبيره، وأوضح “إذا أفصحنا عن مناطق وجودهم بشكل دوري للإعلام فهذا سيدفعهم إلى تغيير خططهم”.
يعتمد الغصري في اعتقاده بعدم قدرة التنظيم على لملمة صفوفه على حقيقة أنه تلقى ضربة قوية في مدينة سرت خلال عملية البنيان المرصوص التي تمكنت من قتل 2500 من عناصره على الأقل، حسب قوله، مشيراً إلى أن بقايا أفراده ربما يلجؤون إلى بعض العمليات مثل التفجيرات الانتحارية أو غيرها إلا أنهم لن يتمكنوا من لملمة صفوفهم.
العمليات الجوية
في نهاية شهر يوليو الماضي تناقلت وسائل إعلام محلية في مناطق جنوب سرت نبأ تعرض تجمع لتنظيم داعش لقصف جوي، ولم تعلن أية جهة عسكرية في ليبيا مسؤوليتها عن القصف.
محمد قنونو الناطق الرسمي باسم غرفة أزمة عمليات الطوارئ الجوية التابعة لحكومة الوفاق قال لـ”مراسلون” إنه “يستهجن نقل أنباء عن قصف تنظيم داعش بدون ذكر المصادر وبشكل غير مهني ودون الرجوع إلى الجهات ذات العلاقة” حسب تعبيره، إلا أنه أكد أن سلاح الجو الليبي يستهدف ويتابع تحركات تنظيم داعش بشكل مستمر ودوري في جنوب سرت والخمس ومصراتة وشرق بني وليد وشمال الجفرة في منطقة الوديان والمناطق الصحراوية، دون أن يذكر عمليات محددة تمت في هذا الصدد.
“طيران الاستطلاع على مدار الساعة يتابع كل تحركات فلول تنظيم داعش الهاربة ويتدخل قتالياً وقت الحاجة بالتنسيق على الأرض مع القوات المكلفة بتأمين سرت والغرفة الأمنية المشتركة في مصراتة”، هذا ما قاله قنونو الذي أكد أن غرفة عمليات الطوارئ الجوية تتابع عملها “الدؤوب” وتقوم بالتنسيق مع قوات الدعم الدولي وغرفة العمليات المركزية، مبيناً أن العمل لم يتوقف بعد السيطرة على مدينة سرت.
قنونو أكد أن تنظيم داعش مدرب بشكل جيد ويتمتع أفراده بدرجة عالية من الحرفية، حيث يعمل على توجيه مقاتليه وتدريبهم بناء على المعلومات التي ينشرها الناس ويصرح بها المسؤولون، لذلك شدد في أكثر من مرة على أن المسؤولين العسكريين يقدرون حساسية الموقف ويحاولون التزام الحرص في تصريحاتهم الخاصة بالعمليات العسكرية حتى لا يستغلها أفراد التنظيم المتطرف.
وهو يتفق مع محمد الغصري ولا يتوقع عودة التنظيم للسيطرة على أية رقعة جغرافية في ليبيا، ويضيف “بعد تحرير المدينة عملنا على ملاحقة فلول التنظيم وخلاياه النائمة، وكنا نعلم أن المعركة لم تنته”.
تهاون وانقسام
من جهة أخرى قال مصدر عسكري رفيع المستوى في القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني إن تحركات التنظيم الأخيرة وقدرته على تجميع بعض قوته جاءت بسبب ما وصفه “تخاذل وتهاون بعض المواطنين الذين يتعاونون مع التنظيم إضافة إلى تهاون بعض الجهات الأمنية غير المنضبطة في مدينة سرت وضواحيها” حسب تعبيره.
“التجاذبات السياسية والخلافات واتجاهات الرأي العام كل هذه الأمور تفيد التنظيم وتساعده على لملمة صفوفته” بهذه الكلمات أكد المصدر العسكري لـ”مراسلون” على أهمية الوصول إلى حل سياسي في ليبيا، لسد الطريق أمام هذه الجماعات التي قال إنها “تستغل الوضع المتأزم في البلاد لبناء نفسها من العدم”.
مشيراً في الوقت نفسه إلى أن العمليات العسكرية التي تشنها قوات حكومة الوفاق الوطني تحاط بنوع من السرية نظرا لحساسية الموقف وخطورة ظهور المعلومات التي قد يستغلها مقاتلو تنظيم داعش للتحرك بناء عليها.
القاعدة أخطر
على صعيد آخر يرى المحلل السياسي أحمد نجم أن تنظيم داعش بشكله القديم في طور النهاية وفي مراحله الأخيرة، إلا أنه يشدد على أن الخطر الحقيقي قائم بوجود التنظيمات الإسلامية الأخرى التي قال إنها “تحظى بالتأييد في أنحاء متفرقة من ليبيا وعلى رأسها تنظيم القاعدة”.
يعتقد نجم أن “القاعدة في ليبيا أقوى من داعش” حسب تعبيره، مؤكداً أن عملية القضاء على التشكيلات المسلحة المتطرفة تحتاج جهداً كبيراً وتوافقاً سياسياً لتحديد الجماعات الإرهابية وتصنيفها، لأن أنصار هذه الجماعات والعناصر التي وصفها بالمتطرفة موجودون في مناطق مختلفة من ليبيا، وهي تحمل أسماء سياسية مختلفة ولها أيضاً نفوذ في الأذرع السياسية وأجهزة الدولة ومفاصلها.
وعلى الرغم من قلة المعلومات المتوفرة حول مصير تنظيم داعش وأعداد مقاتليه في ليبيا إلا أن المراقبين يتفقون على أن الضربات التي تلقاها خلال السنتين الماضيتين أدت إلى انهيار قوته بشكل كبير، وربما تحمل الأيام القادمة الإجابة حول قدرة التنظيم المتشدد على إعادة بناء نفسه من جديد.