لم يتوقف ديوان المحاسبة الليبي وهو أعلى جهة رقابية مسؤولة في ليبيا عن دق نواقيس الخطر عبر تقاريره السنوية العامة فيما يتعلق بالسياسات المالية للدولة، مشدداً على الخلل الواضح في التوازن بين إيرادات الدولة المتدنية واستمرار سياسات الإنفاق غير المنضبطة من قبل الحكومات والمواطنين على حد سواء، بمساعدة مصرف ليبيا المركزي الذي لم يتخذ إجراءات تساهم في ضبط السياسات المالية العامة.

وإذ درجت ليبيا أيام النظام السابق على الإنفاق دون حساب على قطاع الاستثمارات الخارجية التي كانت في الغالب استثمارات سياسية، كان لزاماً بعد الثورة مراجعة كل تلك المشاريع واتخاذ مواقف حيال جدوى استمرارها من عدمه، وهو ما لم يحدث واستمر الديوان بوضع خطوط عريضة تحت ما يراه أخطاء لا بد من معالجتها في هذا القطاع.

وقد حاول “مراسلون” مراراً وتكراراً التواصل مع مسؤولي قطاع الاستثمارات الخارجية للحصول على معلومات ضمن تقارير هذا الملف، لكن الحصول على تلك المعلومات كان غاية في الصعوبة، وحتى في حال تجاوب أحد المصادر مع الصحفيين كان يتعرض لمشاكل مع إدارته التي اتخذت موقفاً شبه موحد بعدم الإدلاء بأي معلومات تفيد إتمام الواجب الصحفي للموقع.

العائد صفر

هذا التردد في التعاطي مع الإعلام تتضح أسبابه بمراجعة تقارير ديوان المحاسبة الليبي والتي كان أولها وأكثرها تركيزاً على قطاع الاستثمار الخارجي تقرير عام 2014 الذي خصص فصلاً كاملاً للحديث عن الاستثمارات في دولتي تونس ومصر، ليؤكد قوله بأن بعض الاستثمارات الليبية تتكبد خسائر تسببت في تآكل رأسمالها ومنها ما لم تحقق الهدف من إنشائها بأن تكون رديفاً للاقتصاد الوطني.

حسب تقرير الديوان فإن شركة الاستثمارات الأفريقية بلغ فيها العائد صفراً من حجم الأموال المستثمرة في المساهمات وقيمتها (774 مليون دينار ليبي)، مشيراً إلى أن حجم الخسائر هذا قد يكون أقل من الواقع بكثير لو أخذ في الحسبان القضايا المرفوعة على الشركة وخسائر هبوط الاستثمارات التي تظهر بقيم غير حقيقية.

فيما بلغت الخسائر المرحلية لمحفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار حسب ذات التقرير حتى نهاية عام 2013 حوالي مليار و846 مليون دولار، وخسرت حتى شهر 10 من عام 2014 وحده (7.037 مليون دولار)، ولم تحقق أي من مساهمات المحفظة بأفريقيا البالغة مليار و137 مليون دولار تقريباً أي عائد خلال سنة 2014.

يأخذ ديوان المحاسبة على محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار أيضاً عدم قيامها بدراسة الجدوى الاقتصادية لعدد من المساهمات التي تدخل طرفاً فيها، وزيادة مخصصات الديون المشكوك فيها للقروض والمحافظ الاستثمارية من سنة إلى أخرى، فضلاً عن عدم وجود تنسيق ومتابعة بين إدارات المحفظة وعدم إجراء المصادقات اللازمة للأرصدة المدينة والدائنة للتأكد من مدى صحتها.

مصر وتونس

انتقل التقرير بعد ذلك للحديث عن الاستثمارات الخارجية بدولة مصر والتي بلغ مجموعها 9 مليار و 290 مليون جنيهاً مصرياً تدير 88% منها شركة ليبيا للاستثمار التي لم تحقق نتائج أفضل من غيرها على صعيد الأرباح والخسائر، حيث معظم دراسات الجدوى الاقتصادية التي قدمت عند تأسيس مساهمات الشركة “لم تكن صحيحة”، ولم تحقق معدل عائد سنوي يتجاوز 1.3%.

أما عن الاستثمارات بدولة تونس والتي تشرف عليها شركة لايكو تونس القابضة فقد غابت عنها حسب التقرير عناصر الحوكمة وتكبدت خسائر مالية كبيرة طيلة فترة الاستثمار بلغت ما مجموعه 13 مليون و571 ألف دينار تونسي حتى نهاية عام 2013، ومع أن الشركات القابضة والتابعة لها كانت تحقق خسائر من الأداء التشغيلي فإن مكافآت مجالس إداراتها كان يزداد باستمرار.

هذه المعلومات المفصلة عن فشل الاستثمارات الخارجية الليبية كان قد نبه إليها الديوان في تقرير عام 2013، والذي تحدث فيه عن بوادر فشل كبير محتمل في قطاع الاستثمار الخارجي بالسنوات اللاحقة، وبدءاً من تقرير 2014 كان يورد كل عام أرقام وحقائق صادمة عن مدى التردي في جدوى هذه الاستثمارات وما تكبده من خسائر للدولة الليبية.

مخاطر غير مدروسة

وبالفعل صدقت تنبؤات ديوان المحاسبة، فقد كان تقريره عام 2015 لا يختلف كثيراً عن العامين السابقين، حيث ذكر أن خسائر المؤسسة بلغت 3 مليار دولار أمريكي في استثمارات الأوراق المالية فقط، وهاجم الديوان في تقريره المؤسسة بأنها أقحمت الاستثمارات في مشروعات لها مخاطر لم تتم دراستها بالشكل الكافي.

وبالرغم من أن التقرير ذكر أن معدل النمو في رأس المال المؤسسة بلغ 9٪ لمدة تسع سنوات أي بمعدل 1٪ لكل عام، إلا أن ذلك النمو متدنٍّ جداً بحسب التقرير.

كما أن التقرير لاحظ في “حساب النقدية” وجود فرق بالرصيد الظـاهر في الميزانية و الرصـيد الظـاهر في الكشـوف التحليليـة بقيمـة (385,091,579) دولار أمريكي ، نـاتج عـن عـدم إجـراء وإدخـال القيـود اليومية وإجراء التسويات المصرفية أولاً بأول من قبل الإدارة المالية.

لـوحظ أيضا بحسب التقرير انخفاض في الإيراد مـن الودائـع بالمقارنة مع السنة المالية السابقة بنحو (8) مليون دولار بنسبة انخفاض بلغت 27 ٪.

وفي ذات التقرير ذكر الديوان أن أعلى معدل إيراد كان من إيراد الفوائد عن الاستثمار في الودائع والسندات، فهي تُعد استثمارات منخفضة المخاطر، إلا أنها لا تتلاءم مـع حجـم الاستثمار، وهـذا النـوع مـن الاستثمارات لا يخدم أهـداف المؤسسة بتحقيـق مجالات اسـتثمارية تحقق إيرادات مجزية.

سوء اختيار

الديوان لم يكن راضياً أيضاً في تقريره عن شركة الاستثمارات الأفريقية، فقد ذكر أن سوء اختيار الشركات المنفذة للمشاريع في أفريقيا أدى إلى إلغاء بعض العقود وإبرام عقود جديدة، تحدث أيضاً عن ضعف الشركة في مجال الاستثمار الأمثل للمشاريع، ونتيجة لهـذا الضعف تم إلغاء العديـد مـن المشاريع التي خُصصت للشركة مقابل الاستثمار مثل مشـروع إنشـاء فنـدق (5) نجوم بموريتانيا.

بحسب التقرير لم تقم إدارة المشروعات بالشركة الليبية للاستثمارات الأفريقية بمتابعة أغلب المشاريع لعدم توفر كافة البيانات الفنية والمالية، رغـم تـوفر وسـائل الاتصالات، وعلــى سبيــل المثال مشروع إعادة تأهيل فندق أبونواس بتونس وفندق ليبيا بغينيا.

طوى تقرير عام 2015 صفحاته عن تفاصيل مالية جسَّدت في المجمل نتائج سلبية ضد الاستثمارات الخارجية للدولة، ليفتح الديوان بعد عام ذات الملف بتفاصيل لا تختلف كثيراً عن ما سبقها.

تجاوزات إدارية

بداية حديث تقرير عام 2016 كان على تفصيل غير مالي، لا يتعلق بالسندات أو حساب النقدية أو المالية، بل عن قيام مدير عام محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار في مالطا بالاستحواذ على مجموعة من السيارات، جزء منها تم شحنها إلى مالطا والبقية في طرابلس ولكنها خارج السيطرة.

وأفرد التقرير مساحة أيضا للحديث عن الإشكاليات القانونية بخصوص من له أحقية تقلُّدِ وظيفة المدير العام للمحفظة، فهناك مديران للمحفظة، وأوصى التقرير بنقل الخلاف إلى جهات الاختصاص خوفاً من تداعياته على سير العمل بالمحفظة، الأمر الذي قد يستدعي تجميد حسابات المحفظة باستثناء مرتبات العاملين.

ويستمر تقرير عام 2016 في التركيز على التجاوزات الإدارية، مبتعداً قليلاً عن تفاصيل التقارير السابقة، ومن قضية الاستحواذ عن السيارات إلى راتب المدير العام لمحفظة أفريقيا للاستثمار، فالمدير العام أبرم لنفسه عقداً بينه وبين اللجنة التسييرية يقضي بتقاضيه مرتباً وقدره 10 آلاف جنيه استرليني، الأمر الذي يعد مخالفاً بحسب الديوان، فالمدير ليبي الجنسية، والعقد أُبرم في طرابلس، وبالتالي كان يجب أن يكون الراتب بالعملة المحلية لا الصعبة.

قضية أخرى تحدث عنها التقرير وهذه المرة تتعلق بعملية تزوير، فقد تمت تلك العملية خلال 2011 على أحد حسابات المؤسسة بمصرف الدوتشي بنك بألمانيا من قبل شخص ألماني، لكن تركيز التقرير لم يكن على عملية التزوير بقدر ما كان على ردة فعل مدير عام المحفظة بطرابلس، والذي أخلى مسؤوليته من أية تدخلات قد تحدث من طرف إدارة المحفظة بمالطا قد تربك سير القضية التي تم رفعها ضد دوتشي بنك لاسترجاع المبلغ الذي سُحب بسبب عملية التزوير والمقدر بـ 16 مليون يورو.

أرباح محققة

أما فيما يتعلق بالشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، فقد كانت أول ملاحظة عن الشركة إيجابية نوعا ما، حيث ابتدأ الحديث عن صافي الأرباح التي بلغت 103 مليون دينار ليبي حتى 30 سبتمبر 2016، محققة تقدماً عن 2015 بنسبة 39٪.

قيمة النقدية وحسابات المصارف والودائع حققت هي الأخرى ارتفاعاً بنسبة 5٪ مقارنة بالعام السابق، ومع ذلك، لم تسلم الشركة من سياط النقد، فقد أشار التقرير إلى عدم قدرة مجالس الإدارة والمدراء العامين ببعض الشركات المساهمة على وضع برامج وخطط وسياسات من شأنها توظيف أموالها بأسلوب اقتصادي، فضلاً عن قصور الجمعيات العمومية لها في تفعيل دور مجالس الإدارة.

الديوان التمس العذر للشركة في تقريره عندما تحدث عن أهم المشاكل والصعوبات التي تواجهها إدارة الشركة المتمثلة في قرارات التجميد الدولية الناتجة عن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، الأمر الذي حال دون تمكن الشركة من استثمار السيولة المتاحة لها.

كانت مجمل الملاحظات المحصورة في تقارير السنوات الأربع الماضية لا تصب في الإجمال لصالح كل ما يتعلق بالاستثمارات الخارجية للدولة الليبية، الأمر الذي جعل الديوان يوصي في بعض مفاصل تقاريره بتجميد حسابات بعض الإدارات تجنباً للتداعيات التي قد تحدث مستقبلاً.

وحسب التقارير فإن النشاط يعتبر راكداً غير محقق لأرباح تليق بحجم رأس مال الأصول الخارجية، وما تم حصره في تقرير “مراسلون” هو ملخص لما نشره ديوان المحاسبة، فهل سيكون تقرير عام 2017 مبشراً لمستقبل الاستثمارات الخارجية؟، أم سيستمر الديوان بالحكم بعدم جدوى الاستثمارات برأس مال يتجاوز ميزانية دولة بأكملها.