تأتي منار كل ليلة إلى مركز سبها الطبي لتواجه مصيراً مجهولاً، وتهديداً دائماً بالموت على يد أحد من يفترض أن تبعث فيهم الرغبة في الحياة، في الوقت الذي تقاعص فيه كثيرون من كادر المركز الطبي عن أداء واجبهم.
رحلة الخطر
تعمل منار محمد (30عاماً) كطبيبة عامة بمركز سبها الطبي منذ سنتين بنظام ورديات مختلفة طوال الأسبوع من الليل إلى المساء والصباح، وسط ظروف أمنية معقدة تعيشها المدينة التي تبعد حوالي 1200 كلم جنوب طرابلس منذ سنين.
تبدأ رحلتها الصعبة إلى المستشفى ليلاً بالبحث عن أيسر الطرق إليها، والبحث عن الشخص المناسب في العائلة الذي سيتحمل عواقب مسؤولية هذه الرحلة، فالخروج في وقت متأخر “محفوف بالمخاطر” كما تقول منار، حيث السيارات معتمة الزجاج تسيطر على الكثير من الطرق المؤدية للمستشفى، ولا تتوانى عن الهجوم على سيارات المواطنين الذين يدفعهم سوء حظهم للخروج ليلاً.
بعد انتهاء رحلة الخطر ومعاناة الوصول للمستشفى ليلاً، تبدأ منار في مهمة الحفاظ على حياة الآخرين وحياتها في المركز.
طبيبة وممرضة
تتحدث منار المولودة في مدينة سبها لأسرة ميسورة الحال وابتسامتها لا تختفي عن وجهها الذي تظهر عليه علامات الإرهاق والتعب والأرق، وكان احمرار عينيها يحكي قصة أخرى عن الإجهاد والسهر الذي تعيشه الطبيبة في فترة عملها.
تبدأ منار عملها – حسبما روت لـ”مراسلون” – بمراجعة طاقم التمريض المناوب معها ليلاً، لتجد أن الطاقم لا يحضر كاملاً على الدوام، ومن يحضر لا يزيد عن ممرضة أو اثنتين، ما يدفعها إلى ممارسة العديد من الأعمال الخاصة بالممرضات.
تقول إنها لا تستطيع أن تتفرج على مشهد القسم وقد انعدمت أو قلّت منه الممرضات، كما لا تستطيع أن تشاهد معاناة المرضى دون أن تساعدهم، ومع انتصاف الليل تجد نفسها تضمد الجروح وتضع حقن التغذية، وتراجع بيانات المرضى بالقسم، كما تستقبل هواتف المتصلين للاطمئنان على مرضاهم وترد عليها بشكل اعتيادي.
تقول مبتسمة “تعودت على عمل الممرضات حتى اختلط علي الأمر كثيراً مؤخراً، لم أعد أفرّق بين عملي كطبيبة ومهام الممرضة”.
هدوء يسبق العاصفة
مع تقدم الليل بمركز سبها الطبي يختفي من تبقى من رجال الأمن، وتخف الحركة من وإلى المستشفى، ويصبح الصمت مطبقاً على المكان، وتنتشر حالة من السكون لا يقطعها إلا أصوات بعض المرضى، أو همهمة من حضر من الممرضات اللواتي يسهرن ليقصرن ليلهن.
فترة الهدوء الأولى تقول منار إنهم تعودوا عليها جميعاً، وتستغلها في ترتيب بياناتها ووضع بعض ملاحظاتها حول مرضاها، وتبادل الحديث مع الممرضات.
ولكن هذا الهدوء لايدوم طويلاً، ففي الخارج تتواصل أعمال السطو المسلح والحرابة، كما تتواصل حالات الضرب والعراك بين الشباب المدمنين، هذا الواقع يفرض نفسه على العاملين في ليالي مركز سبها الطبي.
هو “هدوء يسبق العاصفة” تقول منار، فلا ينتظرون طويلاً حتى يبدأ المركز في استقبال حالات العراك والقتل، حيث من العادي جداً أن يأتي مدمن وهو تحت تأثير المخدر بصديقه الذي تشاجر معه وطعنه ليتلقى العلاج وهما في حالة هستيرية بحسب منار، ومن الطبيعي أن يصل ضحايا السطو المسلح الذين قاوموا قبل إصابتهم إما برصاصة أو طعنة سكين، كما يتم استقبال بعض أعضاء عصابات السطو المسلح الذين أصيبوا أثناء محاولة سرقة مواطن.
“الكل في حالة عصبية والكل يريد أن يتعالج أولاً ليغادر المركز” تقول منار، والكل لا يثق في إمكانات المستشفى ولا في كوادرها الطبية، ولا تجد الطبيبة أمامها إلا التمسك بالهدوء، ورباطة الجأش وتحمل السب والشتم، “لا نبدي أي تعبير أو أي ردة فعل”.
“عالجيني ولّا انريّشك”
ليست منار وحدها من تتعرض للإهانات في المركز، فكل العنصر النسائي المتواجد في الفترة الليلية يتعرض للمضايقات، “يصفوننا بالعاهرات لأننا نعمل ليلاً”.
تتحدث الطبيبة الشابة عن موقف أحد المسلحين الذي جاء بصديقه لتلقي العلاج، وحين بينت له أنها مشغولة بحالة أخرى أشد خطورة أشهر سلاحه وقال “عالجيني ولا انريشك” – عالجيني أو أقطعك بالسكين-، تقول منار بابتسامة هادئة إنها لم تُصدم من أسلوبه، “فقد تعودت على هذه المشاهد وابتعدت عنه في برود”.
لكن ذلك لا يعني أن منار أصبحت تملك مناعة ضد السب والشتم، فأحياناً كثيرة يفيض بها الكيل لتجد نفسها تقدم استقالتها للإدارة، ولكن الأخيرة ترفض الاستقالة وتحاول إقناعها بأن ظرف البلاد يحتم عليها وعلى زملائها الصبر.
لا تعتبر منار الوحيدة التي عانت من هذه الأحداث، فبسبب ما يحدث في المركز توقف أغلب الأطباء عن العمل به، وبالإضافة إلى توقفهم عن عملهم فإنهم يلومون منار على استمرارها في العمل رغم المخاطر التي تتعرض لها، “لا أدري كيف أجيبهم”.
“كلمة طيبة”
لا تواجه منار مصاعب التعامل مع المسلحين والمدمنين فحسب، بل تلاقي الأمرّين من أهالي المرضى الذين لايفهمون عملها، فصراخ ابن أحدهم أو ابنته أمر أكثر من كاف ليطلق الأهالي نظرات اللوم المبطن بالتهديد لمنار، وتتكرر أمامها حالات ينفجر فيها غضب أحدهم ويتهمها بقلة الدراية أو عدم الخبرة، وهذا ما يزيد الضغط على منار التي تحتمل كل ذلك، في الوقت الذي تخلى فيه أبناء المدينة من الأطباء عن خدمة المركز الطبي الوحيد الذي يخدم كل مناطق الجنوب.
يفيض الكيل كثيراً بتلك الطبيبة التي تنزوي في إحدى الغرف لتبكي واقعاً صعباً لاتستطيع تغييره، ولكن “كلمة طيبة من عجوز مريضة” او نظرة محبة من طفل أو كلمات شكر من مريض تفعل فعلها في منار التي ترمي أحزانها أو تتناساها لتعود للعمل من جديد وبعنفوان ظاهر.
مع انتهاء الليل وإشراقة شمس يوم جديد ينتهي عمل الطبيبة منار، فتحزم أمتعتها وتودع مرضاها وتغادر إلى منزلها، وهي تحمل أملاً لا ينتهي سيدفعها من جديد للعودة ليلاً إلى المركز، تقول إن عمل الطبيب في مركز صحي في سبها يعد مجازفة غير محسوبة العواقب، لكن “دعوة طيبة من مريض تشفي روحي وتمنحني طاقة غير عادية” تختم حديثها.