علي أريكة صغيرة داخل إحدى المحلات، جلست إمرأة شابة ذات ملامح هادئة، بشرتها سمراء، شعرها أسود طويل مضفر، عيناها سوداويتين ناعمتين ذات بريق لامع، مكحلتين بالكحل الأسود العربي، ترتدي عباءة ملونة مطعمة بالحلي الفضي، لا يتعدى عمرها الثلاثين عاما، ممسكة بإيدى إحدى السيدات وتقوم برسم الحناء علي يديها بهدوء وإتقان.
عايدة الحاجب، حنانة –متخصصة في رسم الحناء- سودانية، ولدت في الإسكندرية عام 1986، أسرتها جاءت إلي مصر بعد استقلال السودان عام 1956 وعاشت بها، ولكنهم لم يحصلوا علي الجنسية المصرية بسبب قرارات الحكومة المصرية التي تنص على منح الجنسية للسودانيين لمواليد ما قبل 1914 فقط، علي الرغم من أن عائلة عايدة قد أمضت أكثر من نصف عمرها في مصر، وعايدة نفسها لم تزر السودان.
حكت لنا عايدة، عن تلك الأيام التي تعذبت فيها بسبب زيادة رسوم الإقامة في مصر والتي وصلت تقديرها إلى ما يقرب من 11 ألف جنيه في السنة عن الفرد.. “ونحن أسرة مكونة من 7 أفراد ونعمل أعمال بسيطة، حيث أن أبي يعمل في تركيب العطور في أحد المحال بمنطقة المنشية بوسط الإسكندرية، وأمي تعمل في خياطة الملابس، وأنا وأخوتي نعمل حنانات لكوننا متمكنين في رسمها، خاصة بعد أن أقبلت عليها الفتيات المصريات، بعد أن كانت مقتصرة فقط علي بنات السودان أو النوبة، أصبح رسم الحنة الأن –تقول عايدة- أمرا محببا لجميع النساء، لكونها تضفي مزيدا من الأنوثة والجمال للمرأة.
تتذكر عايدة تلك الفترة بشيء من الأسى حيث اقتربت من الثلاثين، ولم تكن تزوجت بعد، بسبب أن الحالة المادية للكثير من الشباب السوداني المقيم في مصر صعبة، إذ لا يعملون وحتى النسبة التي تعمل بسيطة ومحصورة في مهن معينة مثل الحراسة، أو كبائعين وعمال، وتلك المهن لا توفر دخلا يغطي تكلفة زواج، لذا فكرت في قبول الزواج من شخص مصري نوبي، يرحمها من كونها تعامل كمهاجرة ومن مشقة جمع تكاليف الإقامة.
وأضافت عايدة: “جاءت الفكرة في ذهني بعد أن رأيت صديقات كثيرين لي تزوجن من مصريين نوبيين” وحدث أن إحدى صديقاتها رشحت لها عريسا من النوبة كان يبحث عن عروس. وبالفعل حددت موعد لقاء تعارف بينهما فحدث قبول بينهما، مما جعلهم يتزوجون بعد شهور قليلة لكونه كان مستعد ماليا للزواج.
أسألها لماذا نوبي؟ وهل لو تقدم لخطبتك شاب مصري غير نوبي كنت ستوافقين؟
قالت عايدة: “يمكنني القول بأني على قدر من الجمال، وبشرتي سوداء، لكن أغلب المصريون الذين أعيش وسطهم لا يقبلون بالزوجة السوداء كنوع من التمييز والعنصرية الغير مبررة دينيا وأخلاقيا، والشخص الوحيد الذي شعرت أني لست غريبة عنه هو النوبي الذي يحمل نفس لون بشرتي، ومن ناحية أخرى نفس عاداتي وتقاليدي المجتمعية، وأيضا هناك تقارب بلهجاتنا، ولم يعترض علي لون بشرتي الأسود، لذا تزوجته”.
عادات مشتركة
“نحن النوبيون، عاداتنا وتقاليدنا مشتركة، فقط تختلف الاسماء، حيث كل منطقة لها كلمات خاصة بها، حتى في السودان كل منطقة ولها مسميات مختلفة عن غيرها، وعلي سبيل المثال تعد عادات وتقاليد الأعراس في السودان قريبة جدا من تقاليد الأعراس في النوبة المصرية لكوننا ننحدر من أصول واحدة، فهم ليسوا بغرباء عنا” هكذا تحدثت مهجة اللحيمى، 40 عاما، سودانية الأصل ومتزوجة نوبي مصري، ومقيمة في الإسكندرية.
تتابع مهجة قائلة أنها تعيش في مصر مع أسرتها منذ استقلال السودان عام 1956حتى أن أصبحت مصرية خاصة أنها لم تذهب السودان مطلقا، وحينما وصلت لسن الزواج تعرفت علي شاب نوبي من أصول سودانية كان يعمل معها في صناعة العطور، وأحبته وتزوجت منه منذ 7 سنوات وحصلت بعد ذلك علي الجنسية المصرية.
تابعت أنه بحصولها علي الجنسية المصرية شعرت بالراحة لكونها لم تفكر في جمع تكاليف الإقامة، علي الرغم من أنها لم تتزوج من نوبي مصري لتحصل الجنسية فقط، ولتتخلص من معاناة تكاليف الإقامة التي أصبحت المشكلة الأساسية التي تؤرق كل السودانيون المقيمين في مصر، ولكنها اختارته لأنهم أحبته في المقام الأول ثم كونهم متقاربين في العادات والتقاليد واللون.
طقوس العرس السوداني
وعن طقوس الأعراس في السودان تقول مهجة: أولى خطوات الزواج هي “قولة الخير” وهى عادة بداية تعارف أهالي العروسين، ثم الخطوبة، وهى خطوة قبول الأسرة والمجتمع للزيجة، ثم مرحلة “سد المال” أي دفع المهر، ثم تأتي “ليلة الحنة” وهي الليلة التي تسبق الزواج، و يتم فيها تخضيب أرجل و أيدي كل من العروسين بالحناء ويقدم خلالها الطعام المصحوب بالرقص والغناء.
ويأتي بعد ذلك العقد وهو عقد القرآن الذي يعقده المأذون لإعلانهما زوجين، ويعقبها “وليمة العقد” وهى إطعام الأهل من الطرفين والحاضرين، ثم حفلة العرس، وبعدها تبدأ عدة عادات قديمة تعود للفراعنة مثل عادة “الجرتق” وهو إلباس العروسين ملابس حمراء، ووضع قطعة قماش من الحرير حمراء فيها هلال ذهبي اللون على جبهة كل منهما.
ثم يبدأ “بخ اللبن” وهو أن يأخذ كل من العروسين من حليب في إناء و يقوم برشه في وجه زوجه، ثم “قطع الرحط” وساعتها تأتي العروس وفي وسطها حزام حريري، ويقوم العريس بقطعه و رميه للحضور.
الفرح النوبي
بينما تتذكر عايدة أنها حينما تزوجت، جمعوا الطقوس السودانية، مع طقوس الأعراس النوبية، والتي لم تختلف كثيرا عن الأولي فقط مجرد اختلاف مسميات أو زيادة بعض العادات.
فمثلا يسمي النوبيون “قولة الخير” وهى التعارف الأسري “بيرجار” أي طلب يد العروس، ثم يحتفلون بقبول أسرة العروس طلب الزواج عبر حفل يسمى “تنجود يندبى” وفيه يتم ذبح الماشية لإطعام الحضور في منزل العريس، ثم خطوة الخطوبة تسمي عندهم “ادسيمار، أو الشيلة” وهى بداية الإعداد الرسمي للزواج، ثم المهر فلم يختلف بيننا، ثم ليلة الحناء تسمي باللغة النوبية “كوفريه” ثم عقد القرآن ” باليه” أو “أركنه” وهو يوم الزفاف الرسمى.
وتوضح عايدة، في النوبة هناك أيضا احتفالات ما بعد الزفاف، مثل الصباحية وتسمى بالنوبية “باركيد” ثم “التيجر” وهو احتفال بالعروسين يتم في اليوم الثالث من الزفاف عبر الغناء وتناول الطعام النوبي.
أصول وجذور
الدكتورة جامعة سعدون، الباحثة سودانية في التاريخ النوبي بجامعة الإسكندرية، تقول أنها نوبية سودانية، حيث أن والدها نوبي ووالدتها سودانية، مشيرة إلي أن أغلب السودانيات الذين يتزوجن من نوبيون مصريون، ترجع طبيعتهم إلي القبائل التي تسكن مناطق ضفتي نهر النيل أقصي شمال السودان وأقصي جنوب مصر وتعتبر قبيلتي المحس ودنقلا من القبائل السودانية النوبية الكبيرة التي تسكن ديار المحس و دنقلا.
وترجع سعدون، علاقة الترابط الوثيق بين النوبيين السودانيين والنوبيين المصريين إلى أن النوبة كانت أرض واحدة إلي عام 1882 م، حينما أحتل الإنجليز مصر ثم السودان، وعقب قيام الثورة المهدية في السودان، التي تمكنت من طرد الإنجليز، ولكنها في 3 أغسطس لعام 1899 م، هزمت الحملة في موقعة توشكي غرب، الواقعة علي مسافة 250 ميلا من أسوان جنوبا، ما جعل الإنجليز يستردون السودان.
وتضيف، أنه في نفس العام عمل الإنجليز على فصل السودان عن مصر بوضع حدود جديدة بينها عند خط عرض 22 شمالا والذي يمر علي مسافة 330 ميلا جنوب أسوان بين قريتي “أدندان” علي الضفة الغربية ليقسم بذلك قرى النوبة إلى قسمين فوقعت قرية “أدندان” علي الحدود الجنوبية لمصر بينما وقعت “فرس” على الحدود الشمالية للسودان، ومن هنا أنقسمت النوبة تبعا للحدود، فأصبح هناك نوبة مصرية ونوبة سودانية، لذا بالنسبة لجامعة لا توجد أي غرابة في زواج السودانيات من النوبيين لكونهم منحدرين من جذور واحدة.
لم أشعر بالغربة
عايدة الحاجب ختمت حديثها معنا قائلة: أنها لم تشعر بالغربة من زواجها من نوبي مصري، كأنها تزوجت شخصا سودانيا لم يري فيها شيئا غريبا عن غيرها من النساء، مشيرة إلي أن الرجل النوبي يحمل طيبة وشهامة الرجل السوداني، و كلاهما يحترمون المرأة ويقدرونها لذلك منذ خطبتها وهي تشعر أنها اقترنت برجل أصيل يصونها.
تصوير: سيد داود واراب