تحظى محافظة الاسكندرية بوجود عدد من القبائل العربية الكبيرة، حيث يحكم تلك العائلات أعراف كثيرة علي رأسها تأتي “جلسات الصلح أو الجلسات العرفية”، والتي تتلخص مهمتها في رد الحقوق لأصحابها وحماية الأعراض والعهود وحقن الدماء والاقتصاص من الظالمين.

تحظى محافظة الاسكندرية بوجود عدد من القبائل العربية الكبيرة، حيث يحكم تلك العائلات أعراف كثيرة علي رأسها تأتي “جلسات الصلح أو الجلسات العرفية”، والتي تتلخص مهمتها في رد الحقوق لأصحابها وحماية الأعراض والعهود وحقن الدماء والاقتصاص من الظالمين.

في شهر يوليه/تموز الماضي عقدت عائلتا عيت العقارى وعيت عويضة، بقرية أحمد عرابى في منطقة العامرية غربي محافظة الاسكندرية، جلسة إنهاء خصومة، انتهت بصلحهم، وذلك بعد تدخل مشايخ وعمد قبائل الخرفة عيت العقاري وبحضور الحاج رشيد بو العقارى، شيخ القبيلة، والحاج سيد الشولحي، شيخ قبيلة الشوالحة.

تم الصلح بين العائلتين وهم أولاد عم من قبيلة واحدة، بعد خلاف دام لفترة طويلة بسبب مشكلة علي قطعة أرض أراد كل طرف امتلاكها، إلا أن مساعي كبار القبائل نجحت في إنهاء الخصومة بينهما فتصالح الطرفان في جلسة كبيرة نظمها شيوخ القبائل غربي الاسكندرية.

جلسات الصلح

“الجلسات العرفية، أو القضاء العرفي أو قعدة العرب، جميعها مصطلحات لواحدة من أقوى الأعراف والتقاليد الموجودة لدي القبائل العربية وهي تمزج بين أحكام الشريعة الإسلامية والتقاليد السائدة في المجتمع البدوي، وأحكامها واجبة النفاذ لا رد فيها”، هكذا شرح العمدة عباس الشولحى، عمدة قبيلة الشوالحة، بمنطقة العامرية بغرب الاسكندرية، معنى جلسات الصلح.

ويشرح العمدة الشولحي كيفية عقد جلسات الصلح، “يتداول كبار القبائل والمشايخ المشكلة أو الخلاف الدائر بين عائلتين، ويدرسون كيفية العمل على التصالح بينهم. وخطوة بخطوة يتم تدخل أصحاب المساعي الحميدة من كبار القبائل الأخرى”، مؤكدا أنه عقب ذلك يتم تحديد موعد للجلسة الكبيرة التي يتم فيها إعلان الصلح والتراضي.

عادات وتقاليد

عند عقد الجلسة الكبيرة  يأتي كبار القبيلة التي أخطأت فى حق القبيلة المظلومة أو المعتدى عليها في الموعد المحدد وهم يرتدون الزي البدوي ومعهم عدد من الأغنام لكي تذبح فى جلسة الصلح أو يضعون مبلغ مادي علي مأدبة الصلح ويعتبر ذلك من باب التقدير.

ويوضح الشولحي، أنه “عقب ذلك تقوم العائلة المعتدى عليها برد هذه الذبائح والنقود إلى العائلة الجانية من باب إبداء العفو وأعلان إنهاء الخصومة، وبعدها تتم المصافحة بينهما وينتهي الأمر”.

واجب الضيافة

أما عن مسألة التنظيم والإعداد لتلك الجلسات العرفية فيقول سالم القطعاني، أحد أبناء القبائل بغرب الاسكندرية، إن كبير القبيلة وشيخها هو من يتولى الأمر ويأمر شباب القبيلة  بالإعداد لهذا اليوم. فينصبون شوادر كبيرة أشبه بالخيام البدوية المفتوحة وأرضها مغطاة بالسجاد وبها طاولات دائرية مصنوعة من النحاس مليئة بالمشروبات والفواكه والحاضرين يجلسون علي الارض حولها وهي أحد طقوس واجب الضيافة.

يضيف القطعاني أن المتحدث في تلك الجلسات العرفية هو كبير القبيلة أولا، ثم كبار المشايخ و”العواقل” وهم مسئولين عن سرد سبب الخلاف بين العائلتين، ثم تتحدث بعد ذلك العائلة المظلومة والتي تشرح مشكلتها ودرجة تضررها، ثم تتحدث العائلة الظالمة، موضحا أن ذلك لكي يستنير الحاضرون بسبب الخلاف ويصدرون حكمهم العادل.

خارج عن القانون

“طريقة حل المشاكل خارج المظلة القانونية لدى القبائل العربية من أفضل الحلول بعد أن أثبتت فعاليتها بجدارة، خاصة أن البدو دائما لا يحبون حل مشاكلهم بعيدا عن تقاليدهم وعاداتهم المتعارف عليها وهي جلسات الصلح، وما يتم اللجوء فيه فقط للشرطة هى قضايا القتل”، يقول الحج عبودي الحبوني، من أحد مشايخ البدو في غرب الاسكندرية.

يقول الحبوني، إن الأحكام التي يصدرها مشايخ القبائل تعتبر ملزمة لجميع أفرادها ولا يجوز الجدال أو الاعتراض عليها مما يجعلها قانونا اجتماعيا صارما، مؤكدا أن تلك الجلسات تحتفظ بتقاليد معروفة بشدتها وأعرافها لذلك يطلق عليها “القضاء الناجز”.

ويتم الاستعانة بالجلسات العرفية في شتى أنواع المشكلات مثل الزواج والخلاف على الأراضي والإرث والثأر والدم والمباني والمشاجرات. ويجري تقديم توثيق أحكامها لاحقاً في محاضر أقسام الشرطة ومنها إلى المحاكم الرسمية لاعتمادها وإخلاء سبيل المتهمين، فتطوى صفحات الخلافات، وذلك بالنسبة للقضايا البعيدة عن الدم.

يقول الحبوني، “إذا لم يكن هناك دم تقوم الشرطة  بترك الموضوع لكبار القبائل كي ينهوه بجلسة الصلح، ولكن إذا كانت الأزمة كبيرة يتم عمل محضر صلح يقوم كبار القبائل من الطرفين بالتوقيع عليه ليكونوا ملتزمين بما أقره القضاء”.

الدية والكفن

ترتبط أحكام الجلسات المتعلقة بقضايا القتل بتقاليد خاصة. إذ يجب على القبيلة المعتدية أن تترك موقعها وأرضها لتستضيفها قبيلة اخرى لمدة سنة أو أكثر بحسب الأحكام العرفية ثم يتم الصلح ودفع الدية وينتهى الامر بعد ذلك.

وعن مسألة الصلح بتسليم “الكفن” يوضح العمدة عباس الشولحي أن مقدار الديّة يختلف من حالة لأخرى، وهو موجود عند عائلات الصعيد وقليلا ما نجده في الاسكندرية. ويضيف الشولحي، أن قيمة الدية تتراوح ما بين 800 الف جنيه إلى مليون جنيه بحسب حجم الضرر والخصومة التي لحقت بالعائلة المظلومة.

ضرورية لحقن الدماء

يوضح الدكتور جمال فرج، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الاسكندرية أن جلسات الصلح أو الجلسات العرفية هي عادة قديمة أتت مع الفتح الإسلامي لمصر ونزوح القبائل العربية. ويضيف “لقد تطورت مع مرور الوقت لتصبح مهمة جدا لأنها تساعد الشرطة في حقن الدماء وإنقاذ أرواح الأبرياء”.  

ويرى فرج، أن الجلسات العرفية تحل كثيرا من المشكلات الكبيرة بين العائلات خاصة البدو والصعيد والتى من الممكن أن تصل إلى سلسلة من الثارات لن تنتهي رغم تدخل الشرطة والقضاء.

أما العميد شريف عبدالحميد، مدير مباحث الإسكندرية، قيقول أن من أكبر قضايا الصلح التى تدخلت فيها الشرطة بالمحافظة هذا العام هي واقعة إنهاء خصومة ثأرية، بعد جلسة صلح بين عائلتين بعزبة المراغى، وذلك بحضور أعضاء مجلس النواب ونحو 600 شخص من أفراد العائلتين.

ويضيف عبد الحميد، أن الواقعة بدأت بقيام الجاني بالتعدى بالضرب بسلاح أبيض على المجني عليه، لوجود خلافات بينهما على بيع الخردة، وحكم على المتهم المذكور حضوريًا فى 20 مارس 2012 بالسجن لمدة 7 سنوات، وتم تنفيذ الحكم ثم أفرج عنه في 17 سبتمبر 2015 وبعد ذلك حدثت بينهم مشاجرات وخلافات كثيرة. ويؤكد عبد الحميد، أن المتهم رغب في انهاء الخصومة و قدم كفنه لذوي المجنى عليه، وتم إعلان الصلح بين العائلتين.

ويختم عبد الحميد، حديثه قائلا: “تلك الجلسات مهمة وضرورية خاصة في المشاكل الثأرية المعقدة التي تدفع بعض العائلات لإخفاء المعلومات عن جهاز الشرطة ويتطور بها الأمر لارتكاب جرائم قتل تولد سلسلة من الدماء لا تتوقف”.