“سمعت صراخه، وهرعت إليه لأجده قد سقط على الأرض ويتصبب منه العرق بغزارة”، هكذا يحدّث محمد تكاكم كل من يأتيه ليقدم واجب العزاء في موت ابنه أحمد (6 أعوام) جراء لدغة عقرب في الخامس عشر من رمضان أثناء الاستعداد للإفطار في مزرعته بمنطقة أوباري (1128 كلم جنوب طرابلس).
الحرارة تُخرجها
يقول محمد (46 عاما) والذي ما زال مصدوما من موت ابنه “توقفنا منذ سنوات عن تناول الإفطار في المزرعة بسبب كثرة العقارب التي تفسد علينا هذه المتعة”، ولكن هذا العام تغير الوضع حسب كلامه لـ”مراسلون”، فدرجات الحرارة “أصبحت لا تُحتمل، ويرافقها انقطاع التيار الكهربائي لساعات، تصبح فيها المنازل وكأنها أفران شديدة السخونة”، وهذا ما أرغم عائلة محمد وكثيرين غيره على الإفطار خارج منازلهم رغم حذرهم من العقارب التي تخرجها الحرارة من جحورها.
ما ذكره محمد بخصوص درجات الحرارة في أوباري لم يكن يحتاج إلى تأكيد، فعند دخولنا حوالي الساعة الـ 11 صباحا، كان الصمت هو السائد في شوارع تلك المدينة الصحراوية، وكانت درجة الحرارة قد بلغت 48 درجة مئوية حسب مقياس السيارة، وهو واقع تصبح معه فكرة التجول في المدينة أو قضاء الحاجات أمراً شديد الصعوبة، لذا يفضل أغلب السكان قضاء أوقات النهار الرمضاني في منازلهم محتمين بالظل الذي توفره جدرانها، والخروج منها بمجرد زوال الشمس.
يتابع محمد وهو يضع أمام “مراسلون” صور ابنه، أن أحمد كان كثير الحركة ولا يمكث في مكان واحد كثيراً، ورغم أن أهله اتخذوا احتياطاتهم حسب اعتقاد والده متحدثاً عن زراعته لنبتة الحبق في أغلب الأماكن التي يجلسون فيها – يعتقد الجنوبيون أن العقارب لاتحتمل رائحة نبتة الحبق -، كما جهّزوا مكان تناولهم للإفطار بأسرّة وكراسي من الحديد، وابتعدوا عن أماكن الصخور والحشائش التي تختبئ فيها العقارب، ونبّهوا الأطفال بعدم التجول بعيدا عن مكان الإفطار، “ولكن القدر كانت له كلمته رغم كل هذه الاحتياطات”.
25 حالة وفاة
الطفل أحمد لم يكن الوحيد الذي قضى نحبه في أوباري جرّاء لدغة العقرب، فالحزن خيّم في كثير من أحياء المدينة خلال شهر رمضان، حيث توفي أكثر من 25 شخصاً خلال هذا الشهر بنفس الطريقة تقريباً حسب بيانات مستشفى أوباري العام.
علي أمادو (27عاماً) والذي توفيت والدته بلدغة عقرب في الثالث من رمضان كان ممن التقاهم “مراسلون” في أوباري، يقول إن المشكلة ليست في لدغة العقرب بحد ذاتها، بل في طريقة تصرف المحيطين بالملدوغ، حيث يقع نقاش يأخذ وقتاً بينهم حول نقله للمستشفى، أو سلوك طريق العلاج الشعبي، “وهذا ما حدث مع والدتي” يقول علي، فقد اعترض هو على طرق العلاج الشعبي التي أسرعت بها إحدى عجائز العائلة، “أخذت وقتاً قبل أن أنتزعها من بين العجائز وأُسرع بها للمستشفى، ولكنها فارقت الحياة قبل أن أصل بها إلى هناك”.
نقص الأمصال
في مستشفى أوباري يبدو الوضع مربكاً إلى حد ما، فعند دخول “مراسلون” للمستشفى بدت ممراته مكتظة بأهالي الملدوغين، ومباشرة علت أصوات نساء بالصراخ لنكتشف أن حالة أخرى لقت مصرعها بسبب لدغة أخرى.
“مراسلون” تحدث مع مساعد مدير مستشفى أوباري العام سليمان علوة الذي أكد أن مصل العقرب المتوفر لدى المستشفى لا يكفي لعلاج الحالات التي تصل تباعاً، ويضيف أن إدارة المستشفى خاطبت جهاز الإمداد الطبي بضرورة زيادة كمية الأمصال المخصصة لأوباري، خصوصاً أن الحالات لا تأتي من المدينة فقط، بل حتى من القرى المجاورة لها، ويذكر علوة أن هناك حالات تصل متأخرة إلى حد لا ينفع معها المصل، بسبب عدم وعي المقربين من الضحية وأيضاً بسبب اتباع العلاجات الشعبية.
كثرة الحديث عن العلاج الشعبي للدغة العقرب دفع “مراسلون” للبحث عن أحد خبرائه، إلى أن وصلنا إلى الحاجّة “مناني” وهي عجوز تجاوزت الثمانين من عمرها، تعيش في منزل في الطرف الجنوبي للمدينة.
تقول “مناني” إنها تقوم بعصب مكان اللدغة كأول إجراء، ثم تسقي الملدوغ حليب إبل، حيث تعتقد أن الحليب يقاوم سريان الدم في الجسم، بعد ذلك تقوم بامتصاص الدم من مكان اللدغة بفمها، ثم تكوي مكان اللدغة بسكين حاد، وبينما تفعل ذلك تتمتم بكلمات قالتها لـ”مراسلون”، لم نفهمها ولم تشرحها لنا.
تلك كانت طريقة الحاجة “مناني” وهي تختلف عن طرق شعبية عديدة سمعناها في أوباري، وبالرغم من عدم وجود إحصائيات تبين مدى نجاح الطب الشعبي في علاج لدغة العقرب، إلا أن العديد من سكان المدينة يلجؤون له أملاً في علاج لا يكلفهم عناء الوصول للمستشفى الذي يعاني نقصاً في الأمصال والخدمات.
غياب الوعي
رمضان هذا العام بدا مختلفاً بكل المقاييس عنه في الأعوام الماضية بالنسبة لأوباري، حيث تعود الأهالي على الخروج والاستمتاع بأوقاته في المقاهي والمزارع والمحال التجارية، لكن هذا العام مع ارتفاع عدد الوفيات بشكل غير مسبوق صار لرمضان طعم آخر تغيب عنه البهجة.
يرى الناشط بجمعية ابناء الصحراء حسين تويوي أن عوامل عدة ساهمت في زيادة مشكلة لدغة العقرب في رمضان، ويعتقد أن غياب الوعي وقلة الإمكانات تلعب دورها في ذلك، مضيفاً أن السلطات المحلية المعنية بهذا الأمر لم تنظم حملات توعوية للسكان حول كيفية القيام بالإسعافات الأولية للتقليل من احتمال موت الملدوغ، كما لم تستعد للشهر الفضيل وهي تعلم أن أغلب سكان المدينة يقضون معظم أوقاتهم في الأفنية والمزارع، ولم تدرس إمكانية توفير دواء يحارب انتشار العقارب خاصة في الأماكن القريبة من العمران، بالإضافة إلى أنها لم تضع برنامجاً ناضجاً يساهم في توعية الناس بضرورة الإسراع للمستشفى وترك العلاج الشعبي غير مضمون العواقب.
أخطرها “الرملة”
تعيش في أوباري 4 أنواع من العقارب تختلف كل منها عن الأخرى، أكبرها وأخطرها ما يسميها سكان المدينة بـ”عقرب الرملة”، وهي العقرب التي تسببت في مقتل الطفل أحمد.
يصف عبد السلام طاهر الناشط في مجال التوعية لمكافحة العقارب عقرب “الرملة” بأنها تتميز عن بقية العقارب بكبر شوكتها المنتهية بشوكة أخرى صغيرة شديدة السواد، ويضيف أن لدغتها مميتة وخاصة للأطفال، وتكثر هذه العقرب بالقرب من الرمال المحاذية للمزارع والمساحات الخضراء، ويتابع “هذه العقرب مستثناة من هواية صيد العقارب لخطورتها وسرعة حركتها”، وأغلب الحالات التي لدغت فيها العقرب أحد السكان كانت بغفلة من الملدوغ لتشابه لونها مع لون الرمال ولذلك اكتسبت هذه التسمية.
وفي المرتبة الثانية من حيث الخطورة تأتي “العقرب الحمراء”، وسميت بذلك لان أغلب خروجها في “القايلة الحمراء” – تعبير يستخدمه الليبيون عند اشتداد درجات الحرارة وقت الظهيرة -، وهي أيضاً سمها قاتل إذا لم يتم إسعاف الحالة بسرعة، ودائماً ما تقترب من حاجيات البشر باحثة عن الظل، وتتميز بشوكة تعادل بقية جسمها من حيث الحجم.
أما “عقرب الصارة” التي تتميز بلونها الأصفر فتأتي في المرتبة الثالثة من حيث الخطورة حسب طاهر، ورغم أن سمها مميت بالنسبة للأطفال إلا أنها قلما تلدغ البشر، كما أنها بعيدة عن العمران حيث تعيش في سفوح الجبال الصخرية البعيدة عن المناطق السكنية.
وأخيرا “عقرب الريح” المعروفة بصغر حجمها سمها لا يؤثر على البشر، وسميت بهذا الاسم لأنها تتحرك باتجاه الريح عند هبوبها، وهذه العقرب ليست عدوانية حسب طاهر، بمعنى أنها تتجنب البشر قدر الإمكان ولكنهم لايتجنبونها ويحبون اصطيادها.
يقول محمد إن وفاة ابنه كانت فاجعة للعائلة، فلم يعد أحد منهم يهتم لما حوله وخاصةً زوجته التي أصابتها عقدة من ذكر العقارب، “حتى أصبحنا نتجنب الحديث عنها أمامها كي لا تصاب بالهستيريا”.