بينما يمر العقيد “خالد عبيد” رئيس مباحث السويس، في دوريته اليومية، والتي اعتاد على القيام بها منذ توليه مهام المنصب الأمني الحساس بالمحافظة الحدودية، لاحظ بعينه المُدّربة على التقاط كل ما هو غير اعتيادي، حقيبة سوداء متوسطة الحجم موضوعة أسفل أحد المقاعد الخالية بالمقهى المواجه لبوابة الطواريء الخاص بمستشفى السويس العام.
تفجيرات الإهمال العنيفة
على الفور طلب رئيس المباحث من قائد سيارته التوقف وقام بالاتصال بوحدة إبطال المفرقعات، ليتبين بعد فتح الحقيبة امتلائها بالأدوية المستوردة/ المدعمة التي تخص طواريء المستشفى والتي تم تحديد قيمتها بما يفوق مائة ألف جنيها مصرياً.
بعد سؤال أمن المستشفى والعاملين بالطواريء تبين أن من قام بتسريب تلك الحقيبة هي الممرضة (ج . ع ـ 46 عام)، و قد أوضحت التحقيقات الأولية أنها قامت بذلك لغرض بيع الأدوية والتي دخلت طواريء المستشفى منذ شهر بعد استيرادها من خلال صفقة أدوية وأجهزة طبية تفوق قيمتها المليون جنيها مصرياً، والشهيرة ب “مناقصة برلين”.
قبل أقل من شهر واقعة مشابهة بمحافظة المنوفية، حيث تمكنت المباحث الجنائية بالمحافظة من ضبط تشكيل عصابي يتكون من خمس أفراد يتزعمه رئيس تمريض تخصص في سرقة عقار الأنسولين المخصص لمرضى السكر، هذه الحوادث المتكررة والمنتشرة بأرجاء الجمهورية تعد الحلقة الأولى من مسلسل خروج كميات أكبر من هذه الأدوية خارج البلاد، هذه الأدوية التي يدفع ثمنها المواطنون من ضرائبهم، وفي المقابل لا يحصلون على الخدمة الملائمة، ليظل المُلام الوحيد هم المواطنون أنفسهم، حتى بعد ضبط كميات مهولة قبل تهريبها، والمضبوط – قطعاً – هو نسبة قليلة من الذي تم تهريبه بالفعل.
نقص بالداخل وأطنان إلى الخارج
في لقاء مع المخلص الجمركي (محمد عرفة – 35 عام ) العامل بالدائرة الجمركية بميناء السخنة أخبرنا أنه في فبراير الفائت استطاعت السلطات احباط محاولة تهريب ما يفوق ال 22 طن من الأدوية المدعمة محلية الصنع داخل حاوية، وأفاد عرفة أن الحاوية قد دخلت الميناء بمستندات مزورة تفيد احتوائها على مستلزمات منزلية متنوعة.
وبمتابعة التحقيقات المتعلقة بحادث ميناء السخنة تمكنت الرقابة الإدارية من ضبط 3 مخازن ضخمة بمحافظتى القاهرة والسويس تحوى أطناناً إضافية من الأدوية المدعمة المُعدة للتهريب، وتم القبض على أحد عشر فرداً يتزعمهم سوري الجنسية.
مخزون استراتيجي يطير في الهواء
“تهريب الدواء بشكل عام كارثة كبيرة تزيد من نسب النقص الحاد بالعديد من الأدوية كما تهدد مخزوناً استراتيجياً مهدد بالفعل” كما يخبرنا الدكتور أحمد العطار العامل بإحدى شركات الأدوية، واعتبر اللواء عاطف يعقوب رئيس جهاز حماية المستهلك أن تهريب الدواء أخطر بكثير من الإرهاب لأنه من الممكن أن يتسبب بشكل مباشر في وفاة المرضى وهم في أشد الحاجة إلى العلاج، كما أكدت الدكتورة رشا زيادة، رئيس الإدارة المركزية للشؤون الصيدلية أن تهريب الدواء للخارج هو العامل الأول والأساسي في أزمة نقص الدواء التي تعاني منها البلاد.
وفي الوقت نفسه الذي تعلن فيه وزارة الصحة القيام بأقصى مجهوداتها للحد من تهريب الدواء لخارج البلاد ، يقوم أحد المتصلين ببرنامج العاشرة مساءاً الذي يقدمه الإعلامي وائل الإبراشي بإخباره أن الأدوية المصرية المدعمة تباع بأرخص الأسعار على مرأى ومسمع من الجميع على أرصفة شوارع دول غرب أفريقيا، وفي سياق متصل تقدم المهندس محمد فرج عامر رئيس لجنة الشباب والرياضة بمجلس النواب المصري بطلب إحاطة لرئيس المجلس الدكتور علي عبد العال يتهم فيه وزير الصحة الدكتور أحمد عماد وقيادات وزارته بالتواطؤ – على حد تعبيره– مع مافيا تهريب الدواء مما يؤدي لنقص الأدوية الهامة خاصة ما يتعلق بالأمراض المزمنة والخطيرة كأمراض القلب والفشل الكلوي والسرطان والسكر، مما يهدد صحة المواطنين المصريين، وخاصة الفئات محدودة الدخل وغير القادرين.
زاد المسافر
تشكل المطارات المصرية بشكل عام ومطار القاهرة تحديداً مطمعاً لمهربين الدواء للخارج برغم كل الاجراءات الأمنية المتزايدة طمعاً في عودة حركة السياحة، كما صرح مصدر أمنى بمطار القاهرة، أنه خلال مارس الفائت وبنفس اليوم، قد تم احباط محاولتي تهريب، إحداهم لما يقرب من مائتي كيس دم تستخدم بعمليات الغسيل الكلوي، والأخرى 9 أمبولات مخدرة خاصة بمرضى السرطان، وقد كانت جميع المضبوطات خاصة بوزارة الصحة والسكان ومحظور تداولها خارج مستشفياتها.
أما مطار برج العرب بالأسكندرية فقد شهد واقعة طريفة، حيث لجأ أحد المسافرين في محاولة تهريبه للدواء المدعم ل “حشو” الطعام، وتحديداً المشويات، حيث اشتبه رجال الجمارك في أحد المسافرين إلى جدة لآداء العمرة وعند سؤاله أكد أن حقائبه لا تحتوى إلا على ملابس الإحرام وبعض المأكولات، وعند التفتيش الدقيق، وجد رجال الجمارك كمية من المشويات (كفتة ودجاج و حواوشي) ملفوفة بورق الألمونيوم الحراري، مخبأ بداخلها 65 ألف أمبول مفرغة من عبواتها، وقد تم إلغاء سفر الراكب وتحرير محضر له والقبض عليه.
من يدفع الفاتورة ؟
وبينما تستعد الدولة المصرية لتطبيق قانون التأمين الصحي الشامل، والذي تقضي بنوده على تخفيض ميزانية العلاج المجاني إلى الربع، رفع قيمة تذكرة الكشف بالعيادات الخارجية من جنيه مصري واحد لسبعة جنيهات مصرية، وتحويل الصيدليات التي تقوم بصرف العلاج الموصوف مجاناً إلى تقاضي 30 % من قيمة ثمنه، يستمر نزيف مخازن الدواء بالمستشفيات العامة والمراكز، ليتم تحميل غير القادرين فاتورة الفساد وغياب الرقابة وفشل السياسات الإدارية بوزارة الصحة المصرية.
وفي هذا الصدد يخبرنا الدكتور علي يوسف أخصائي الجراحة العامة والحاصل على دبلوم في اقتصاديات الصحة من المملكة المتحدة أن المنظومة الصحية المصرية مهترئة بشكل عام، وأن الترقيع والإصلاح الجزئي غير مفيد في الحالات المشابهة، كما أن قانون التأمين الصحي الشامل المزمع تطبيقه جيد نظرياً، لكنه لا يتوافق مع الظرف الاجتماعي ولا الإقتصادي للدولة المصرية ولن يزيد الأمور إلا سوءاً، وأن الأمر لن يعدو سوى كمحاولة تغطية سماء أحد الأحياء العشوائية بالبالونات الملونة.
تصوير: سيد داود