في روايته “صالح هيصة” الصادرة سنة 2000 يرصد الروائي المصري الكبير الراحل خيري شلبي “1938-2011”  حالة الغرز في الستينيات وأوائل السبعينيات، حيث كانت الغرز وهي عبارة عن مقاه لشرب الحشيش، نشاطا علنيا، من زبائنها الفنانون والمثقفون والموظفون وطلبة الجامعة بالإضافة للبلطجية والعمال وماسحي الأحذية.

وبالرغم أن الكاتب في نهاية روايته يقول أن الحكومة نشطت في السبعينات وأزالت كل الغرز، وهذا حقيقي إلى حد كبير، إلا أن بعض الغرز القليلة جداً قاومت الإنقراض، وبقت تتحدى الزمن، لتثبت أن الأسطورة التي عرفتها الأجيال الجديدة فقط من الأفلام والروايات، مازالت حية.

الطريق إلى الغرزة

منطقة مصر القديمة، بجوار جامع عمرو بن العاص، شارع طويل وضيق ومظلم، بمنتصفه تجد على اليمين محل متواضع يبيع أصناف قليلة من حلوى الأطفال والأكل المُعلب، بجوار المحل وعلى ناصية مع تفرع صغير، يجلس رجل على كرسي خشبي، أمامه منضدة مربعة صغيرة، مرصوص عليها علب بلاستيكية، أستطيع الإقتراب فقط لأن معي دليل من المنطقة، “موس” شاب يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، سائق توك توك وغرزجي آخر الليل.
يتظاهر موس بكوني زبون جديد من طرفه، فنقترب قليلاً من العلب البلاستيكية ويشرح لي موس أن قطع الحشيش مقسمة في علب مختلفة حسب السعر: “في بميتين، وفي بمية، وفي بخمسين”، إلى جانب علبة تحتوى أقراص الترامادول -شرائط مقطعة إلى أقراص- وعلبة تحتوي على الشرائط سليمة، علبة أخيرة تحتوي على أقراص “الآباتريل” وهو علاج للصرع ويتم تناوله كمخدر، قرص الترامادول وصل سعره إلى خمسة عشر جنيها ، وهو سعر الشريط الكامل من أربع سنوات، بينما سعر قرص الآباتريل عشرون جنيهاً مصرياً فقط لا غير.

المقابر كرمز للكيف

في أحد مشاهد فيلم “كراكون في الشارع”  1986 وهو فيلم كوميدي مصري من بطولة عادل إمام ويسرا وإخراج أحمد يحيى. يسِّلط الضوء على مشكلة السكن في مصر، يتورط بطل الفيلم مع عدد من الأشخاص يشربون الحشيش بداخل المقابر، وكأن صمت الأموات يمنحهم مزيداً من القدرة على التأمل، نفس الحال هنا، فبعد تجاوز “الدولاب”، واستكمال المشي بالشارع الطويل، ينعطف يميناً في نهايته، ليفضي إلى ساحة ترابية واسعة تدخل بك مباشرة لمدخل المقابر، قبل هذا المدخل بخطوتين، تجد على اليمين مقهى شعبي صغير، هذا المقهى الذي يبدو بريئاً للغاية، ليس إلا غرزة، لتناول الحشيش على الشيشة.

نجلس لشرب الشاي والقهوة كما على أي مقهي، يمر علينا الداخلين والخارجين من المقابر، ويجلس معنا هاني، صديق موس وابن صاحب الغرزة، يخبرنا هاني عن تاريخ الغرزة وما مرت به من أحداث.

تطور التعاطي مجتمعياً

يخبرنا هاني، 33 عام، خريج كلية الآداب، أن الغرزة كانت مزدهرة وقت أن كان التعاطي أمر غير مجرم إجتماعياً، أمر يتم بسهولة وسلاسة بين مختلف الطبقات الشعبية، ولم يكن الحشيش وحده، فقد كانت هناك الطبخات الكيميائية ك “المنزول” أو مستحضرات العطارة ك “النشوق”، لكن الحشيش ظل صاحب الحظوة، فيشربه المجتعون حول الراديو لسماع حفلة أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر، ويشربه الفنانون والمثقفون، على الجوزة وفي المقهى، وأن الفرق الوحيد أنهم يقدموه في الغرزة على الشيشة وليس الجوزة، لاعتبارات أمنية، حيث أن الشيشة من المصرح وجودها بكل المقاهي، وإن اختفى الحشيش من المعادلة، تتحول الغرزة خاصتهم في ذلك الوقت، لمقهى مثل أي مقهى ، يقدم الشاي والقهوة والمشاريب المختلفة، متضمنة الشيشة.
كما يضيف هاني أن سلوك التعامل الفردي مع الحشيش، سيجارة الحشيش، هو سلوك حديث نسبياً، فالكيف قرين الإجتماع، لذلك تجد الأصدقاء، وحتى عند امتلاكهم لكمية وافرة من الحشيش، يقوموا بلف سيجارة واحدة، وشربها سوياً بالتناوب، ثم أخرى وهكذا، فاقتسام المزاج لا يقلله، بل على العكس، يضاعفه.

قسم الموارد البشرية

من هو الغرزجي؟ وماذا يفعل؟ وهل تحتاج الغرزة لأكثر من غرزجي؟ عن هذه التساؤلات وأكثر يجلس معنا ويجيبنا “سيد تاكس” -45 عام ، والذي يعمل سائقاً  على سيارة أجرة طوال اليوم وغرزجياً في مناوبة المساء مع موس الذي تركنا وذهب لآداء توصيلة سريعة بالتوكتوك، ببساطة يقول تاكس أن “الغرزجي: هو قهوجي الغرزة”، إلا أنه يقوم ببعض المهام الإضافية مقابل بعض الامتيازات المجانية، أي أنه يغسل الشيشة جيداً، يحمل الأحجار المملوءة بالمعسّل، يجلس أمام الزبون ويسقيه، بمعنى أن الزبون يضع “البصمة” أو قطعة الحشيش على المعسل، فيسكب عليها الغرزجي فحماً صغيراً مشتعلاً من مصفاة يحملها، يشد الزبون قدر استطاعته ثم يناول الشيشة للغرزجي ليكمل الحجر، ويطوله من الطيب نصيب.
قبل تلك العملية هناك واحد يملأ الأحجار الفارغة بالمعسّل، وبعدها هناك آخر يسيّخ الأحجار، أي ينظفها عبر قيامه بإدخال سيخ حديدي من فتحتها السفلى، فيخرج من فتحتها العليا دافعاُ ما بها من معسّل محروق إلى الخارج، يتدخل هاني ليشرح أن الأمر من عشر سنوات مثلاً كان يحتاج لثلاثة أشخاص، كل واحد في موقع، غير رابع يقدم المشروبات للزبائن، أما الآن، لقلة المترددين على المكان، فغرزجي  واحد، قادر على القيام بكل شيء.

ماذا تفعل المنطقة ؟

عن ردود فعل الجيران وتفاعلهم مع نشاط المقهى، يخبرنا هاني أن أهل مصر القديمة بشكل عام و”خارطة أبو السعود” بشكل خاص أسرة واحدة كبيرة، والجميع يعلم أن ذلك هو أكل عيشنا وطريقتنا لكسب الرزق من جدود الجدود، وطالما لا يتم تجاوز الأدب منّا ومن زبائننا فأهل المنطقة يحموننا عند قدوم الشرطة بإخبارنا، ومعظم رواد المقهى أصلاً من نفس المنطقة، ومنهم العديد ممن لا يشرب الحشيش، ويجلس عندنا بالمقهى كجلوسه على أي مقهى، يشرب الشاي، ويلعب الطاولة، ثم يسأل هاني: تلعب طاولة؟

 

تصوير: عادل عيسى