ابتسامة فاضل لم تفارقه وهو يقف بالقرب من ناصية الطريق، ملوحا بيديه الصغيرتين بأكياس من المناديل الورقية “الكلينكس” حسب اللهجة الدارجة، بينما يعترض أصحابَ السيارات بمجرد وقوفهم عند الإشارات الضوئية لإقناعهم بشراء بضاعته قبل انتهاء يومه.

أعمال مختلفة

ابتسامة فاضل لم تفارقه وهو يقف بالقرب من ناصية الطريق، ملوحا بيديه الصغيرتين بأكياس من المناديل الورقية “الكلينكس” حسب اللهجة الدارجة، بينما يعترض أصحابَ السيارات بمجرد وقوفهم عند الإشارات الضوئية لإقناعهم بشراء بضاعته قبل انتهاء يومه.

أعمال مختلفة

يقول فاضل (14 عاماً)  لـ”مراسلون” إنه منذ فترة تجاوزت 7 سنوات يتقاسم وعدد من رفاقه عوائد بيع المناديل الورقية، والتي تصل في فترات معينة لأكثر من 170 ديناراً يومياً (125 دولار أمريكي)، حيث يخرج وزملاؤه الأطفال كل صباح قاصدين محلاً لبيعها بالجملة، والذي بدوره يسلمهم كمية كبيرة دون دفع المبلغ كاملاً، ليعودوا إليه مساءً ويسددوا ما بقي من حساب، “والمتبقي من المال الذي تم جمعه في ذلك النهار يتم اقتسامه بالتساوي” يقول الطفل وهو يتحدث بصوت هادئ.

يتدخل فتحي الترهوني (15 عاماً)  وهو شريك فاضل الذي يقف يومياً في “جنة العريف” وسط طرابلس لمدة ساعتين فقط، ومن ثم يتجه إلى موقف خاص بالسيارات حيث يشارك عدة أطفال آخرين في غسيل السيارات وتجهيز المياه والصابون للعمال الوافدين المسيطرين على مهنة غسل السيارات في تلك المنطقة، وبسعادةٍ أيضاً يذكر فتحي أنه يتحصل على 5 دنانير (3.5 دولار) مقابل غسل المركبة الواحدة، وبتفاخر يقول إنه يستطيع غسل 5 سيارات يومياً.

البيع بالاستعطاف       

قد يكون المراهقان “فاضل وأحمد” يعملان برغبة تامة منهما في العمل، رغم أن كلامهما لا يخلو من تلميحات لوجود من يدفعهما للعمل صباحاً كل يوم، إلا أن الرضيع الذي تحمله أمه في مفترق الطرق بمنطقة “راس حسن” وهي سيدة منقّبة تمتهن هي الأخرى بيع المناديل الورقية، لا شك أنه يجهل ما يتعرض له.

السيدة التي تبيع بضاعتها مستغلة طفلها الرضيع الذي تتجول به وسط أجواء طرابلس الصباحية المتقلبة، لتستعطف بذلك المارة وقادة السيارات، بمجرد اقتراب “مراسلون” منها ومحاولة التقاط صورة لها صاحت بأعلى صوتها “ليبية.. ليبية.. ليبية”، وهي تلوّح بجواز سفرها الأخضر، ما أثار حفيظة الحاضرين الذين هبوا نحونا مطالبين بحذف الصور، وفعلاً تم حذفها.

توقف اللجنة

بعد أخذ عديد الشهادات والإفادات من أطفال عاملين ينتشرون بملابسهم البالية في شوارع العاصمة الأكثر اكتظاظاً، والذين يُفهم من معظمهم أن هذا مصدر الدخل الوحيد المتاح لهم، سواءً كانوا يعملون بأنفسهم أو يتم تشغيلهم، وأنهم لا يرتادون المدارس ولا يفكرون بتأمين مستقبلهم بطرق أفضل، توجه “مراسلون” إلى مدير لجنة مكافحة التسوّل والمتاجرة بالأطفال العقيد محمد البكوش.

البكوش أكد مشاهداتنا بأن ظاهرة التجارة من خلال استغلال الأطفال تنامت وباتت ترهق كاهل الجهات المسؤولة، منها وزارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة بالطفل.

ويتحدث مستاءً عن توقف لجنة مكافحة هذه الظاهرة بسبب انعدام الدعم المادي، مشيراً إلى أن اللجنة التي شُكّلت العام المنصرم قامت بجهود “جبارة” حسب وصفه، لمكافحة الكثير من الظواهر السلبية ومنها عمالة الأطفال والتسول وانتشار الرذيلة وبيع المخدرات وغيرها.

اجتماعات فقط

اللجنة التي تحدث عنها البكوش كانت قد انبثقت عن اتفاق بين وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخلية، بالتعاون مع عدد كبير من الأخصائيين الاجتماعيين، ولكن توقف عملها بعد تغيير وزيرة الشؤون الاجتماعية سميرة الفرجاني حسب قوله.

البكوش أوضح أن اللجنة لن تعود للعمل إلا بتوفر الدعم المطلوب، متمثلاً في سيارات النقل والاحتياجات النقدية والنثريات اللازمة لفريق العمل كي ينجزوا مهامهم.

بدورها لم تخفِ الوزيرة السابقة استياءها من توقف عمل اللجنة، مطالبة ممن خلفها إنجاز ما تبقى من خطة العمل، وتضيف الفرجاني أنها حاولت جاهدة التوغل في فهم ظاهرة عمالة الأطفال، حتى أنها  كلفت لجاناً لدراسة أوضاعهم  المعيشية والاجتماعية حسب كلامها، “ولكني تركت المنصب واستلمه غيري وعليه يقع إتمام المهمة”.

ليست هناك إجراءات عملية لمكافحة عمالة الأطفال على أرض الواقع، هذا ما لاحظه “مراسلون” من خلال حديثه مع أكثر من مسؤول، فكل ما يتم تقديمه عبارة عن حلول افتراضية لا تتجاوز مكاتب الاجتماعات.

إحدى تلك الاجتماعات سيجري عقدها كحلقة نقاش حسب ما أفاد به رئيس لجنة رعاية الطفولة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية خميس ميلاد، بحضور ممثلين عن وزارة الداخلية وكافة الجهات الأمنية “لمعرفة أسباب انتشار وازدياد الظاهرة التي اكتسحت مدينة طرابلس خاصة” حسب ميلاد.

القانون يُعاقب

من جانبها لم تنتظر أحلام الخويلدي من منظمة حقوق الطفل والمرأة نتائج تلك الحلقة لمعرفة الأسباب، حيث كشفت تفاصيل أخرى لـ”مراسلون” بدأتها بأنهم جراء تتبع هذه الظاهرة التي زادت مؤخراً “تشعبت بنا وأدخلتنا نفقاً مخيفاً”.

تؤكد الخويلدي أنها قررت التوقف والاستعانة ببعض الجهات الأمنية، خصوصاً بعد كشف وكر في تاجوراء، يقوم من خلاله عدد كبير من الأجانب بتشغيل الأطفال والفتيات مقابل 1500 دينار شهرياً (1100 دولار أمريكي تقريباً)، حيث يتم توزيعهم في الصباح بشكل منظم، وفي نهاية اليوم يتم تحصيل عوائد البيع.

ما تقوم به هذه “العصابة” التي تستعمل الأطفال هي جريمة يعاقب عليها القانون بحسب المادة 27 من قانون العمل الذي يحظر تشغيل الأطفال كما أفادت المحامية منيرة العزابي.

وذكرت العزابي لـ”مراسلون” أنه يُعاقب بالسجن من يثبت عليه استعمال قاصر للتجارة، وتشير أن حقوق الأطفال في المواثيق الدولية تكمن في الرعاية والحماية وتمكينهم من التمتع بطفولة سعيدة.

ولكن على ما يبدو، فإن ما تتحدث عنه المحامية هو شيء مبهم تماماً بالنسبة لـ”فاضل” وأصدقائه، فالتمتع بـ”الطفولة السعيدة” قد يُخيّل إليه أنه يعيشها في تلك البيئة التي يعتقد أنها تمثل العالم، وبالرغم من ذلك فقد اعترف لنا فاضل أنه يبكي في أوقات كثيرة ولا يمكنه حتى مسح دموعه رغم كثرة المناديل التي يبيعها يومياً.