لا زال عبد الروؤف عمر (26 عاماً) ينتظر صرف أجوره مقابل عمله كممرض في مركز طرابلس الطبي لأكثر من عامين ونصف حتى الآن، وذلك بعد التحاقه بالمستشفى عام 2014 إثر انطلاق عملية “قسورة” التي سببت الحرب في طرابلس وأدت لهرب الأطقم الطبية الأجنبية التي كانت تعمل فيها.

تحصل عمر على شهادة التمريض منذ سنوات وقضى فترة طويلة يبحث عن عمل، إلى أن نصحه صديقه بالذهاب والتطوع في المركز الطبي الذي يشهد ككل مستشفيات العاصمة نقصاً حاداً في الكوادر الطبية والطبية المساعدة.

يقول عمر “كانت تلك فرصة ذهبية لي ولغيري من الكوادر الوطنية المعطلة حتى ذلك الوقت، وبمجرد قدومنا للمستشفى وجدنا ترحيباً وملأنا الفراغ الحاصل، لكننا لازلنا ننتظر تسوية أوضاعنا المادية حتى هذا اليوم”.

لابد من فرزها

جولة “مراسلون” في بعض المستوصفات التابعة للدولة أثبتت وجود الكثير من العناصر الوطنية التي تم دمجها بالمرافق الصحية من مختلف التخصصات والمستويات، فهناك كوادر عاملة بهذا المجال متحصلة على شهادة تحت المتوسط وتكفل لهم فرصة العمل كمساعد ممرض – تحت اسم مسعف –، حيث يخضع المتدرب ممن تحصل على شهادة ابتدائية أو ما دون ذلك للتدريب فترة لا تتجاوز بضعة أسابيع يُمنح عقبها شهادة “مسعف” وأعداد الحاصلين على هذه الشهادات كبيرة قياساً بعدد العاملين في كل مرفق صحي.

الأطقم الطبية والطبية المساعدة التي تم دمجها مؤخراً في قطاع الصحة وحصلت على قرارات تعيين تعمل جميعها بمقابل مادي يتراوح بين 800 و 1200 دينار ليبي في الشهر، وإن كانت تلك الرواتب لم تصرف إلا أنها سجلت كمستحقات على الدولة الليبية يجب الإيفاء بها عند تسييل الميزانية.

حسب رأي المبروك الشريدي المسؤول في نقابة المهن الطبية فإن هذه التعيينات التي تجاوز عددها الآلاف في طرابلس وحدها تمت “بطرق غير قانونية”، وإن كانت قد ساهمت في فترة من الفترات في حل أزمة نقص الكوادر في المستشفيات، إلا أنه لا بد من فرزها وإعادة النظر فيها.

شهادات مزورة

فمن بين سبعة عشر ألف موظف ممن حصلوا على فرص عمل بقطاع الصحة سيتم الإفراج عن مرتبات خمسة آلاف موظف فقط بين أطباء وأطباء مساعدين – حسب كلام الشريدي –، وذلك بعد التدقيق في صحة شهاداتهم وأرقامهم الوطنية وبعض الاشتراطات الأخرى.

نقابة المهن الطبية لها دور مفصلي في عملية فرز وتعيين الكوادر الطبية في المستشفيات، حيث لا بد للموظف من الحصول على “إذن مزاولة مهنة” من النقابة، وقد اكتشفت النقابة وجود مراكز تدريب وهمية تبيع الشهادات لطالبي فرص العمل، وقد حصل فعلاً عدد من المتقدمين على إذن مزاولة المهنة قبل اكتشاف هذا الأمر، وهو ما دفع النقابة لحصر الجهات التي تقبل منها الشهادات بالمراكز التابعة لوزارة الصحة فقط.

يقول الشريدي إنه في عام 2006 صدر قرار عن وزارة الصحة يقضي بضرورة حصول المتقدم للعمل كممرض أو مساعد طبيب على شهادة عليا من معهدٍ عالٍ للتمريض أو شهادة جامعية، “كنا في ذلك الوقت نطمح للرفع من مستوى العاملين في القطاع، واختفت آنذاك المعاهد المتوسطة بقطاع الصحة، غير أنها عادت خلال السنوات الأخيرة في شكل مراكز تدريب غير مؤهلة، فمن يملك مقراً يجهزه ببعض المقاعد الدراسية ويستقطب الباحثين عن فرص عمل تحت مسمى دورات تدريب مسعفين، وعن طريق العلاقات الشخصية يمكنهم من العمل بإحدى المصحات حتى ولو بمقابل مالي زهيد”.

ولتدارك هذا الأمر – يوضح الشريدي – قامت وزارة الصحة بإعادة فتح ثلاثة معاهد متوسطة للتمريض، مقراتها داخل المستشفيات الكبرى بالعاصمة وهي تسمح للكوادر التي حصلت على فرص عمل بالمستشفيات وأثبتت كفاءتها في العمل باستكمال دراستها والحصول على شهادات معتمدة وقانونية، “أما موضوع المخالفين فسيبقى متروكاً للجهات القانونية المختصة”.

يفوق الاحتياجات

يقول محمد العبيدي مدير إدارة المستشفيات التابع لوزارة الصحة إن استقلال المستشفيات مالياً سبب في هذه المشكلة، ويرى بأن أعداد الذين تم تعيينهم يفوق بمراحل الاحتياجات الحقيقية للوحدات الصحية بل ويصف تعيين هذا الكم من المسعفين بأنه “جريمة”.

حسب العبيدي فإن تعيين هؤلاء الموظفين يتم عقب حصولهم على موافقة ديوان المحاسبة وتحديداً إدارة التوثيق والمعلومات، وذلك بعد أن يتم مراسلتها من قبل إدارة المستشفى بما يفيد عدم وجود ازدواج في الوظيفة لدى المتقدم في جهة أخرى، وهذا الإجراء حسب قوله يفتح باباً “للوساطة والمحاباة والعلاقات الشخصية في التعيينات”، ولا يلبي حاجة المرفق الصحي الحقيقية للتخصصات المختلفة، وفي نظر الوزارة فإن كل هؤلاء الموظفون “خارج الملاك” يقول العبيدي.

“مراسلون” تحدث أيضاً إلى عدد من الطبيبات والممرضات المعينات حديثاً بمستوصف الهضبة الخضراء بطرابلس وجميعن لم تصرف لهن أية رواتب بعد، وقد اتضح من خلال الحديث أنهن وبعد حصولهن على قرارات التعيين الرسمية قمن بتقسيم العمل بينهن على مدار الشهر، حيث يحضرن بالتناوب بحيث يكون نصيب كل منهن في العمل يومين في الأسبوع (الفترة الصباحية) ومنهن من تعمل ليوم واحد فقط (صباحاً ومساءً)، بحيث يتمكنَّ عقب ذلك من مواصلة عملهن في عيادات خاصة.

حول ذلك يقول العبيدي إنهم “لا يؤدون ساعات العمل المطلوبة منهم حسب لائحة وزارة الصحة رقم 418 بخصوص التعيينات، والتي تقضي بأن يؤدي الموظف بالوزارة عدداً معيناً من ساعات العمل موزعة على الفترات الصباحية والمسائية، وبذلك فقط يمكن إلزام وزارة المالية بدفع رواتب العاملين في مواعيدها”، عدا ذلك يعتبر تجاوزاً للقانون حسب تأكيدات العبيدي.

الرقابة والمحاسبة

أيمن الجليدي الناطق باسم هيئة الرقابة الإدارية صرح لـ”مراسلون” بأن ملف التعيينات بوزارة الصحة هو حالياً بصدد التدوال في وزارة المالية، وسيتم إصدار تفويض مالي لصرف رواتب المعينين بعد الفرز، وهو يُخلي مسؤولية هيئة الرقابة عن هذا الموضوع لأنها لا تقوم بأي دور في عملية التعيين، وتحديد إن كانت هذه التعيينات شرعية أم لا هو أمر “بيد القضاء” حسب قوله.

وفي ذات الإطار كان ديوان المحاسبة قد حذر عبر منشور اصدره هذا العام /

وجهه رئيس الديوان خالد شكشك، إلى كل من رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي ومحافظ مصرف ليبيا المركزي ومدراء المصارف من “تنامي ظاهرة التعيينات في الجهات العامة بالدولة بشكل مخالف للتشريعات النافذة، وهو ما يثقل كاهل الدولة بأعباء مالية لا تستطيع الإيفاء بها”، مطالباً “بأن لا يتم التعيين أو إبرام عقود شغل الوظائف إلا بعد الإعلان عن الوظائف الشاغرة المراد التعيين بها عبر الوسائل الإعلامية، كما لا يجوز التعيين أو التعاقد إلا بوجود وظيفة شاغرة بالملاك”، وكذلك أن يتم “إخضاع المتقدمين للوظيفة لامتحان قبول أو مقابلة شخصية وفترة تجربة، ووجود مخصصات مالية معتمدة ضمن ميزانية الجهة تتضمن مرتبات المعينين الجدد”.

وورد أيضاً في منشور الديوان أن”التعيينات بالمخالفة للتشريعات النافذة تشكل جريمة جنائية وفقاً لقانون الوساطة والمحسوبية، وقانون الجرائم الاقتصادية، كونها إهداراً للمال العام وإساءة لاستعمال السلطة لتحقيق منافع للغير”، ونبه ديوان المحاسبة إلى أنه “لن يتوانى عن إحالة كل من يخالف هذه التشريعات إلى السلطة القضائية، لسحب القرارات الصادرة بالمخالفة وإيقاع العقوبة الرادعة على المتسبب فيها، وإلزامه باسترجاع كل المبالغ التي صرفت للمستفيد بالمخالفة”.