تحكي القصة الأسطورية أن رجلا بمفرده أتى إلى القاهرة الجديدة، بنايته كانت الأولى في المكان، لم تكن ثمة طرق أو وسائل مواصلات، مجرد مدقات في صحراء شاسعة، كان وحده وسط عواء الذئاب، الوحيدة تقريبا التي أقامت هنا لعهود بجانب ثكنات متفرقة للجيش.

جاء الرجل بحثا عن مناخ أفضل له ولأولاده، انتظر بصبر سنة وراء الأخرى اكتمال خطوات الإنشاء في المدينة مترامية الأطراف، يحكي لمن يريدون معرفة التاريخ، كيف كان عليه هو والقادمون الأوائل انتظار دخول المرافق، الكهرباء والماء وشبكة الطرق والهواتف، كلما اكتمل طريق احتفلوا على طريقتهم.. إقامة حفل شواء في الهواء الطلق، الصحراء تختفي تحت طبقات الأسفلت الأسود والبنايات ذات الأدوار المحددة سلفا والتي لا يمكن الزيادة عليها شبرا واحدا، محكومة بقانون جوارها لمطار القاهرة الدولي، تكون شكلا واحدا بطراز معماري ولون محدد، فلا تشوه نقاء الصحراء.

السنوات الأولى في عمر القاهرة الجديدة كانت الأصعب، وربما كانت في النهاية لتلاقي المصير نفسه الذي واجهته مدن الجيل الأول: مرتعا للأشباح، وقليل من الناس يلعنون هذا الاستثمار الخائب.

 لا مبالغة في القول أن أمثال هذا الرجل، الذي أصبح يطلق عليه “عمدة حي الشباب”، صنع الفارق، وفي كل حي أو تجمع في القاهرة الجديدة هناك مثله، من عزف عن الحياة في القاهرة القديمة، استجابة للإلحاح الإعلاني ربما، أو غالبا بفعل تجارب سابقة في الأحياء العتيقة، وصلوا مدفوعين بالرغبة في نوعية حياة أفضل، مثل تلك التي عاشوها إن كانت أعمارهم تسمح بهذا في الستينيات والسبعينيات، وإن كانوا أصغر سنا فمن قصص آبائهم وأجدادهم، وقراءتهم، وتصورهم الشخصي عن كيف لإنسان أن يعيش في مدينة، ما الذي يريدونه ولا يجدونه، آلاف المضايقات التي مروا بها والتي سببها في الأساس كما يدركون غياب القانون والأخلاقيات المجتمعية.

ليس هذا تصورا خياليا خاضعا لفتنة الكلمات، لكنه بالفعل ما حدث على أرض الواقع، أرض القاهرة الجديدة أو التجمع، كما أصبح الجميع يطلق عليها، منذ التأسيس وإلى الآن يحكمها مبدأ أساسي: لا نريد التحول إلى عشوائيات. يكفي أن تقول هذه الجملة في اجتماع ما يناقش مشكلة أو يسعى لاتخاذ قرار حتى تجد اتفاقا من الجميع وحماسا لتسريع الإجراءات. هذه الفترة يشن سكان القاهرة الجديدة حملة ضد رئيس جهازها وعنوانها الأساسي أن المدينة بدأت تنزلق إلى منحدر السقوط، يلاحظون أن إهمالا بدأ يتسرب إلى بعض جوانبها، شوارع غير معتنى بها، حملات النظافة تقل معدلاتها عن المطلوب، الكلاب الضالة تمرح في الليل بلا مواجهة من أحد، ولا يبدو أن ما يفعله الرجل لإسكات الأصوات المعارضة تجدي نفعا، تتواصل المطالبات بإبعاده عبر نشرات إخبارية مدعومة بإعلانات المراكز الاقتصادية في المكان، وعبر جروبات مغلقة.

ما لم يضعه القادمون الأوائل إلى القاهرة الجديدة في حسبانهم أن عليهم التعامل مع فئة لم ينبههم أحد لوجودها، لم يكن لها أي ملمح في الإعلانات التجارية التي روجت بإلحاح على أن هنا لا عيوب على الإطلاق، لم يقل إعلان ما للقادم إلى هذا الحلم أنه سيكون عليه التعامل مع من تم تسميتهم “العرب”، بدو يعيشون على أطراف الصحراء، بعضهم تخصص في الحراسات الخاصة، يفرضون أنفسهم هكذا، إن لم يتولوا حماية عقارك فغالبا ما ستتم سرقته! والبعض الآخر يبيع مستلزمات البناء، بأسعار تفوق مثيلاتها في الأسواق، لكن بحسبة بسيطة تجد أن الأفضل اقتصاديا وأمنيا الموافقة على العرض، لأنك لا تعرف ما الذي يمكن أن تصل إليه الأمور إن رفضت، هناك قصص عديدة عمن رفضوا مرتكزين على قانون تخيلوا أنه يحميهم، لكنه لم يفعل، تغض السلطة النظر عن هؤلاء العرب، تتجاهلهم ويتجاهلونها، والحملات الأمنية ضد الخارجين منهم لا تنطلق إلا في الكبائر، مثلما حدث مؤخرا على سبيل المثال عندما لقى مدير نيابة الظاهر مصرعه في أحد أحياء التجمع برصاصة على يد البعض منهم بسبب الخلاف على ملكية قطعة أرض، كما أفادت البيانات الرسمية.

لكن، لحسن الحظ، هؤلاء “العرب” لا يبقون طويلا، يضطرون للرحيل بعد فترة، وقتما ترسخت الحياة في مكان تنتفي الحاجة إليهم ولا يعود بوسعهم مواجهة مجتمع كامل فينتقلون إلى تجمع آخر ما زال في مرحلة البناء.

تبدو القاهرة الجديدة للقادم إليها لأول مرة مجتمعا واحدا، التصور العام أن سكانها جميعا من الأغنياء، كان هناك حرص من البداية على ذلك، الواجهات كلها تقريبا في الشوارع الرئيسية إما فيلات أو “كومباوندات”، ومولات، ومراكز تجارية، كلها تتنافس في الثراء وإن افتقدت الذوق المعماري في بعضها، أما التجمعات الشعبية فتختفي بصرامة خلف تلك البهرجة، مع ذلك فالمعاناة تم تقسيمها بعدالة تقريبا، الخدمات التي تتأخر ولا يفلت من هذا إلا من لديه استعداد مالي كبير، سواء كان فردا يملك قطعة أرض يبني عليها بيته، أو اتحاد ملاك يسعى بين أجهزة الدولة المختلفة: الكهرباء، الغاز، المياه، والهواتف، وكلها غيرت من سياساتها وتطلب الآن من الناس تحمل عبئا أكبر في التأسيس، في دخول الشبكات وتوصيلها، وصاحب القدرة المالية الأعلى يسبق جيرانه، غير أنه في حالات خاصة لا يكون بقدرة المال إنقاذ الأغنياء، مثلا: قبل عام كان على أغلب مناطق القاهرة الجديدة معاناة بدت كالكابوس: محطة المياه العملاقة والمخصصة للمدينة شاب تنفيذها الفساد فلم جاء وقت تشغيلها انفجرت ومعها خط المياه المؤقت الذي كان يتولى التغذية سابقا، هكذا صحا السكان بلا نقطة مياه، لشهور كان عليهم المرور بتجربة العطش، الحكومة تعد بعودة المياه وتحاول التهوين من الأمر، والغضب يتصاعد حتى اضطر المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء وقتها للاعتذار علنا، يتحول موضوع محطة المياه لأزمة كبرى بين الحكومة والشركات المنفذة، اتهامات وتهديدات، بينما عربات المياه تجوب شوارع التجمع لتذكر سكانه بأن عليهم التخفيف من فخرهم.. في النهاية لم يبتعدوا كثيرا عن أمراض دولتهم المستعصية.

حياة جديدة تناسب اسم المكان، لكن الكلمة خادعة للغاية، من اشترط أن الجديد لا بد أن يكون كاملا، هذا درس تعلمه القادون الأوائل، أن عليهم مثلا قطع مسافات طويلة لأجل الحصول على أبسط احتياجاتهم، المولات التجارية كانت قليلة للغاية في البداية، ويتم افتتاحها بحسب الكثافة السكانية، كثيرون كانوا يلجأون إلى أسواق “الرحاب”، المدينة الأضخم فى القاهرة الجديدة، لكن زوارها عليهم الدخول من أبواب معينة، ومؤخرا بعد شكاوى متزايدة من سكانها تم حصر الدخول من باب واحد فقط، وربما يمنعك أمنها إن شكوا في أمرك، تزايدت التعقيدات في دخول “كومباوندات” لغير ساكنيها بعد كثرة عمليات السرقة فيها، في هذا السياق تناقل سكان أحد الأحياء بغضب حدث إيقافهم على باب الكومباوند الأقرب لهم ليفحص الأمن بطاقاتهم الشخصية، وهم لا يريدون إلا الدخول لصلاة الجمعة في المسجد الوحيد بجوارهم، تبين أنه حتى العبادة قد لا تكون بالسهولة المفترضة.

غياب وسائل المواصلات وندرتها كانت ولا زالت واحدة من المشاكل الكبرى، ولولا القرب النسبي للقاهرة الجديدة من الطرق الرئيسية، ومن أحياء عامرة، لفشل المشروع بأكمله، وإلى أن بدأت المواصلات الداخلية الخاصة أولا ثم الحكومية كان على من لا يملك سيارة أن يتعود على السير، من النقطة الأخيرة التي تصل إليه وسيلة مواصلاته إلى بيته، مسافة قد تطول أو تقصر لكنها  ستكون في كل الأحوال كافية للتدرب على طقس الصحراء بما يعنيه من برودة وسخونة لم يعتدهما قبلا، والأهم من ذلك أن يتناسى خوفه الغريزى من الكلاب خاصة تلك التي تسير في مجموعات لا يمكن تخمين ما هي مقدمة عليه.

ولأنه مثلما يقال الحاجة أم الاختراع.. راج في التجمع لفترة راكبوا الدراجات النارية الذين يقفون متراصين مثل مشهد في فيلم أمريكي، لكن الفارق أن هؤلاء ليسوا مجموعة من الشباب المغامرين، بل سائقين ينتظرون زبائنهم.

غير أن كل ذلك يمكن تحمله طالما ستكون نهايته سعيدة مثلما هو الحال الآن..

 

في الأسبوع القادم: الجنة إلا قليلا