كان علي العودة إلى اليوتيوب ليس للتأكد من أني سمعت ما قاله الإعلامي محمد الغيطي جيدا، فالرجل كان واضحا بما فيه الكفاية، لكني ربما كنت أبحث له عن مبرر، فما الذي يدعو إعلامي لأن يشتم شعبا بالكامل؟ وهو ليس بشعب لدولة أخرى، وإن كان ذلك لا يمكن تبريره أيضا، لكننا على الأقل اعتدنا سماعه من حين لآخر، لتثور معه أزمة ديبلوماسية يتم حلها ظاهريا وتبقى آثارها في النفوس. الغيطي كان يسب نفس الشعب الذي يعيش معه ويخاطبه بلغته وعلى شاشاته: “شعب تنبل”، هكذا قالها بلا تردد، وسيماء الانفعال على وجهه، لدرجة تجعلك تفكر في طبيعة سلوك هذا الرجل إن كان مسؤولا، أو قياديا.. ما الذي يمكن أن يفعله؟

غير أن ما فعله الغيطي لا يخيف كثيرا، نسب مشاهدته ليست عالية، والمتفرج لن يأخذ ما قاله على محمل الجد، قد يرد في ذهنه أنه يفعل ذلك فقط للبقاء تحت الأضواء، يصبح معروفا بأنه المذيع الذي يشتم الشعب المصري، وهذه الأيام لا دعاية سيئة، المهم أن تكون محور الجدل.

غير أن الغيطي ليس حالة منفردة، وما صدر عنه لم يكن مجرد كلمات انفعالية ضمن سياق لا يحكمه كود أخلاقي ما، الأمر يبدو، لو التزمنا حسن النية، كأن حمى ما سرت بين قطاعات إعلامية، تصب غضبها على الناس، تحملهم كل تبعات الفشل الاقتصادي، وحالة التردي الاجتماعي، هم السبب في أننا انتقلنا خلال الستين عاما الأخيرة من دولة قوية تستدين منها الأمبراطورية البريطانية إلى بلد يحيا على المعونات الخارجية..

في واحدة من حلقات برنامجه كان النائب السابق والإعلامي توفيق عكاشة مستغرقا في واحدة من تحليلاته الغرائبية، وفي سياق ذلك أكد بلهجة لا يرقى إليها الشك أن الشعب المصري يحب “ينضرب على قفاه”، والأكثر حسبما ذهب “أنه (أي الشعب) يستمتع بهذا”.

عكاشة الذي ربما يسجل له سبق سب الشعب على التليفزيونات، لم يكن مجرد إعلامي، بل بحسب ما كان يصف نفسه فإنه قائد ثورة، مؤمنا بأنه من أشعل ثورة 30 يونيو، تصور قاده في النهاية للخروج من البرلمان، وإيقاف برنامجه، رحلة سقوطه بدأت بعد نجاح الثورة وتخليه عن الطابع الفكاهي الذي كان يحير المشاهد ويجعله عاجزا عن الفصل بين الحقيقة والهزل فيما يقول، انتقل إلى الموقع الذي يرى نفسه جديرا به كقائد، شخصية المهرج السابقة، ومثلما صارح جمهوره لم تكن أكثر من قناع استخدمه لإزاحة الإخوان، والآن حانت مرحلة التنظير السياسي الجاد وهي التي سطر بها نهايته.

ليس الغيطي وعكاشة إلا مثالين على نموذج شاع في الفترة الأخيرة قوامه انتقاد الشعب المصري، تختلف الطريقة واللغة لكن الجوهر واحد: أنتم السبب في كل المشاكل التي نعاني منها، لا تفعلون إلا الأكل والتزواج، لا تتقنون العمل، هذا إن كنت تعملون أصلا. ومع الخطاب وصفة للنهوض بمصر تعتمد على نفض التراب عن الشخصية المصرية ليبرق من جديد معدنها الأصيل الذي يميزه وفق الإعلاميين: تحمل الشدائد، وتقديس قيمة العمل، وتقديم الوطن على أي مصلحة شخصية.

لا يمكن القطع برأي في الكيفية التي انتشر بها ذلك الخطاب بتلك السرعة والقوة والتأثير، كما لا يمكن التأكيد على نتائجه: هل يستيقظ الشعب فجأة وقد أدمن العمل، هل يزهد في الجنس والإنجاب بينما يعتبر أن تلك واحدة من المتع القليلة الممنوحة له في حياته، هل الخطاب الإعلامي على هذه الصورة كفيل بتغيير قناعات راسخة؟ الإجابة عن هذا تستلزم أولا البحث في سؤال آخر: ما مدى مصداقية الإعلام لدى الشعب المصري الذي يتم معايرته بضعفه يوميا على الهواء مباشرة.

منذ ثورة 25 يناير وهناك شرخ واسع بين الإعلام والناس، الصورة العامة أن الإعلاميين لا يقولون سوى ما تريده السلطة، يكفي أن تتابع الحديث اليومي في الشارع وعلى السوشيال ميديا لمعرفة مدى اتساع الهوة بين الجانبين، خاصة أن سلطة الإعلام التقليدي لم تعد مطلقة، عدد متابعيك أصبح الفيصل الوحيد، وإن كانت صفحة على الفيس بوك تضم عددا أكبر ممن يتابعون برنامجك وقتها يتحول ما تقوله لكلام يدور في الفراغ، ليس ذلك فقط فالأقسى أن يتم اصطيادك لتصبح الضحية على مواقع السوشيال، والمعركة الأخيرة بين باسم يوسف وخالد صلاح تصلح نموذجا دالا على هذا.. السب الذي وجهه باسم لخالد تحول في زمن وجيز للترند الأعلى على تويتر، موجها ضربة قاسية لخالد صلاح ومؤسسته الإعلامية.

غير أن حالة عدم الثقة والاستهزاء المتبادلة ما بين الناس والإعلام لا تعني انعدام التأثير، ينزل الخطاب الإعلامي إلى الشارع فينقسم الناس حوله، هناك من يتبناه، ليصبح مألوفا، في مناسبات مختلفة، أن تسمع من أحدهم سبا للشعب.. يميل للفوضى، هذا مثلا إن كنت في ساعة ذروة والطرق مكدسة. أو أنه شعب لا يحب النظام، إن تجاوز أحدهم دوره في الطابور. وبجانب هذا تترافق المقارنات بين الشعب المصري وشعوب أخرى عربية أو أجنبية، الاختلافات في منظومة السلوك والتصرفات.

 على الأغلب تنتشر الانتقادات الموجهة للشعب من أفراد الطبقة المتوسطة الذين يدللون على الرؤية الإعلامية بأمثلة عدة: الشباب يفضلون الجلوس على المقاهي في انتظار أن تهبط عليهم ثروة من السماء. الصنايعية غير مهرة.. بالتأكيد جربت الاستعانة بواحد منهم لإصلاح شئ ما في منزلك.. ماذا كانت النتيجة؟

السؤال الذي يطرحه الإعلام يفترض أن الشخصية المصرية كتلة واحدة، وأنها كانت تملك سابقا طبيعة مثالية لم تعد موجودة الآن، والسبب غالبا مجهول، لا يهتم أحد بالبحث فيه، مجرد إشارات غائمة عن أخطاء لأنظمة سياسية سابقة، وفشل منظومة التعليم، ولوم أحيانا على الدور الغائب للفن والثقافة.

لا يبدو الحديث على تلك الشاكلة أكثر من محاولة لتبرئة الذات، كل طرف يلقي بالتهمة على آخر، السلطة السياسية ترى في الإعلام صانع مشاكل، لا يفهم طبيعة المرحلة الحرجة، الإعلام من جانبه يجد في الشعب المتهم المناسب لهذه الفترة، في الأخير لا يوجد متحدث رسمي باسمه ينفي الإدعاءات في حقه، أو يطالب بلهجة محترمة للتعامل معه، والطريقة الوحيدة لإزاحة الاتهامات أن تحصي كل فئة مساوئ الأخريات، مئات من الانقسامات، طبقية وفئوية، المهم أن تجد كفرد أو مجموعة من تصب عليه غضبك لأنه السبب في تأخرنا، إن لم تفعل ساعتها أنت المقصود: أنت السبب في تأخر مصر.

منذ صدر كتاب جلال أمين الشهير “ماذا حدث للمصريين؟” والسؤال أصبح علنيا، لكنه في الفترة الأخيرة أخذ منحى أكثر حدة، بدلا من الأسئلة الأكاديمية، والإعلامية المهذبة، باتت هناك استراتيجية جديدة تقول أن هذا الشعب هو المرض نفسه، فيروس على جسد مصر، قناعة ينقصها فقط الإعلان عن القرار الذي تم أخذه للتخلص من مصدر العدوى.