صباح السبت ، بينما كان الدكتور محمود عوض ينتظر زميله الذي سيستلم منه مناوبة قسم الاستقبال بمستشفى السويس العام، إذ داهمته صرخات امرأة منتقبة تحمل طفلاً في حالة إغماء ، بعد إسعاف الطفل والفحوص المبدئية ، تبين تسممه وضرورة التعجيل بإجراء غسيل للمعدة، وقد حدث.
صباح السبت ، بينما كان الدكتور محمود عوض ينتظر زميله الذي سيستلم منه مناوبة قسم الاستقبال بمستشفى السويس العام، إذ داهمته صرخات امرأة منتقبة تحمل طفلاً في حالة إغماء ، بعد إسعاف الطفل والفحوص المبدئية ، تبين تسممه وضرورة التعجيل بإجراء غسيل للمعدة، وقد حدث.
تبين أن الطفل “فارس- 6 سنوات ” يمارس التسول مع أمه وإخوته بعدد من المناطق المختلفة بمحافظة السويس، وأنه قد ابتعد عنهم صباح اليوم ليجد نصف بطيخة بالرصيف الأوسط بين نهري الطريق، قام بشمها ثم تذوقها، ورأى أنها صالحة للأكل، لم يفكر فارس كثيرا فيما من قد يأتي بنصف بطيخة طازجة لهذا المكان، وتحت وطأة الجوع وحرارة الجو الشديدة ورطوبته المرتفعة، أكل فارس نصف البطيخة.
حملات حكومية
لم يكن “فارس” هو المقصود، فلم تبدأ الدولة المصرية – بعد – خطة قتل أطفال الشوارع، وإنما وقع ذلك الحادث كأثر جانبي لأحدث حملات الجهات التنفيذية بمحافظة السويس، لمحاولة التخلص من طائر الغراب، تحت عنوان “البطيخ المسموم”، والتي تأتي بعد شهور قليلة من حملة “الغراب بجنيه” والتي شنتها المحافظة في مايو الماضي عن طريق الاعتماد على عدة محاور، أهمها تشجيع المواطنين على قتل الغربان بأنفسهم، عن طريق إعطاء مكافئة مقدارها جنيها مصريا واحدا مقابل كل جثة غراب يتم تسليمها، ثم حشد مجموعات شبابية لتوعية المواطنين وتحذيرهم من خطر الغربان، كما طالب المحافظ مديرية الصحة بتوفير سيارات مجهزة لنقل جثث الغربان الهالكة.
وبسؤال الدكتور حسن الجعويني وكيل وزارة الطب البيطري بالسويس أخبرنا أن مشكلة الغربان قديمة و كبيرة وتتفاقم، وأن أعداد الطائر في تزايد كبير وصل لدرجة أن محافظة السويس والتي لا يتجاوز مواطنوها المليون نسمة ، يوجد بها ما يفوق ضعف هذا العدد من الغربان ، بما تسببه من مضايقات للمواطنين، والتي تصل للمهاجمات والإصابات المباشرة، مما قد يقضي على حركة السياحة المتواضعة أصلا، حيث تعتبر محافظة السويس أكبر مآوى لهذا الطائر على مستوى الجمهورية، وإن كان الإزعاج والعدوانية هي الشكوى الأولى لسكان المناطق التي تستوطن فيها الغربان، فإن هذا الخطر قد ينتقل لمحافظات قريبة إن لم يتكاتف الجميع للقضاء على أعداد الغربان المتزايدة، فالسويس، التي كانت تسمى “بلد الغريب” ، كادت أن تصبح “بلد الغراب “.
مخاطر اختلال التوازن البيئي
وعن جدوى الحملات من هذا النوع ، يخبرنا الدكتور محمد هلال الطبيب البيطري أنه لا يجدها مجدية على الإطلاق ، على العكس، بل أنها تتسبب في كوارث أكبر، حيث لا تكف الإدارات البيطرية المتعاقبة على ارتكاب نفس الخطايا، نفس جرائم القتل التي تطال الكلاب والغربان وغيرها من الكائنات، والتي تتمثل خسائرها المبدئية في إزهاق مئات الأرواح بدلا من الاستفادة منها أو على الأقل تركها تعيش في سلام.
تاريخ من الفشل
يحكي هلال تاريخ الحملات المشابهة، فيخبرنا عن استخدام المحافظة لفريق الجمهورية في الرماية في آواخر التسعينات، والذي ظل عدة سنوات في محاولة للقضاء الكامل على أعشاش الغربان وأسرابها وأعشاشها بلا فائدة. كما سبقت تلك المحاولة تجربة مشابهة في أوائل التسعينات حيث كان هناك رحلة سياحية لوفد سعودي بمحافظة السويس، ومن يتذكر الواقعة التاريخية يعرفها بأسم “أبناء لادن”، حيث كان أغلب الوفد من عائلة لادن السعودية الكبيرة، وقد تطوع أحد أفرادها عندما سمع عن أزمة الغربان بالمحافظة، وعن طريق بعض الوسطاء، تم الاتفاق على أن يقوم أفراد الوفد بممارسة هواياتهم في الصيد على هذا النوع تحديداً من الطيور، وقد كان، لم يكن عدد الطيور مهولاً وكانت الحملة احترافية ومسلحة جيداً.
غادر الإخوة السعوديون البلاد بعد انقضاء رحلتهم، متبوعين بالشكر والدعوات، بسبب تبرعهم بالقضاء على الطائر الخطير، لم تفت أسابيع إلا وتعرضت المحافظة لهجمة غاية في الشراسة من قبل الحشرات والقوارض، مما أدى لظهور العنوان الذي أثارسخرية أهل المدينة، على صفحات الجرائد وقتها، باستيراد المحافظة لكميات كبيرة من طائر البوم، ليتغذى على ما كان يتغذى عليه المرحوم الغراب، ضحية حملة الصيد السعودية.
الغراب الجاني والمجني عليه
يؤكد الدكتور محمد هلال أن ما يحدث هو حملات وحشية سواء في قتل الكلاب الضالة أو طائر الغراب. فالغراب دينيا طائر مقدس علم الإنسان كيف يدفن أخيه في قصة قابيل وهابيل. كما أنه واحد من أذكى المخلوقات الحية. وعن الاعتداءات التي يرى هلال مبالغة كبيرة في تضخيمها يؤكد أن الغراب لا يبدأ بالعدوان، بينما قد يقوم بالانتقام ممن بدأ بالاعتداء عليه.
وبسؤال المحامية بسنت محمد عن مدى قانونية فعل تعمد قتل الحيوانات ردت بأن ذلك الفعل إن تم دون دراسات وافية تؤكد ضرورته فإنه يكون مخالفاً للدستور والقانون، حيث تنص المادة الخامسة والأربعين من الدستور على أن الدولة تكفل حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للإنقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، ذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون .
يرفض الدكتور محمود مغادرة المستشفى قبلما يخرج” فارس” باليوم التالي من المستشفى، سليماً هذه المرة، يمشي على قدمين بجوار أمه، والتي ستجره حتماً إلى العمل، لتعويض خسائر الأمس، لكن من يعلم في المرة القادمة لمحاولات استهداف وقتل الكائنات، أي الأسماء ستكون ، بجوار –شركاؤنا في الحياة- الحيوانات، بسجلات الضحايا ؟