في وسط حديقة “الباساج” وسط العاصمة كانت رانيا فتاة بالثالثة عشر من العمر تسير ببطئ وتعثر وبيديها النحيفتين كعود ثقاب طفلها الرضيع يصرخ من الجوع بحثا عن حليب أمه التي أعياها التعب.

تجلس رانيا التي كان يبدو جليا على ملامحها براءة الطفولة في مكان هادئ نسبيا بعيدا عن أنظار الناس على عشب الحديقة لترضع من ثديها صغيرها الذي أنهكه الجوع والتعب والمرض والوسخ.

في وسط حديقة “الباساج” وسط العاصمة كانت رانيا فتاة بالثالثة عشر من العمر تسير ببطئ وتعثر وبيديها النحيفتين كعود ثقاب طفلها الرضيع يصرخ من الجوع بحثا عن حليب أمه التي أعياها التعب.

تجلس رانيا التي كان يبدو جليا على ملامحها براءة الطفولة في مكان هادئ نسبيا بعيدا عن أنظار الناس على عشب الحديقة لترضع من ثديها صغيرها الذي أنهكه الجوع والتعب والمرض والوسخ.

تشير الساعة إلى العاشرة والربع ليلا، لكن أضواء المدينة المنبعثة من بعض المحال والمقاهي القريبة تبعث في المكان بعضا من النور الكافي لهذه الفتاة المرضعة حتى تهتم قليلا بوليدها الجائع.

الطفلة الأم

كان المكان هادئا لا تقطعه سوى بعض الضحكات القادمة من هنا وهناك أو أصوات منبهات السيارات المارة، وليس بعيدا عن الفتاة يجلس بنفس الحديقة أطفال قصر تقطعت بهم السبل أيضا.

حول وضعية هؤلاء الصبية، تقول رانيا التي قبلت التحدث عن مضض لـ”مراسلون” إن هؤلاء الأطفال أصدقاؤها غادروا مكرهين عائلاتهم بحثا عن لقمة العيش وإن الظروف القاسية جعلتهم مشردين.

وبسؤالها عن وضعها تقول إن ما عاشته جعلها تظهر أكبر سنا من عمرها، مضيفة أنها وجدت نفسها منذ سن السادسة في الشارع حيث كانت تعيش قرب مصب للفضلات كان موجودا أطراف العاصمة.

لكن ذلك لم يدم طويلا بعدما قررت البلدية اتخاذ قرارا بإزالته فغادرت مع والدتها المريضة مكرهة لتبدأ معها رحلة التسول والتشرد في شوارع العاصمة إلى أن وافت المنية أمها فتبقى وحيدة في حياتها.

وبحكم تسولها في الشوارع وقضاء الليل في العراء أصبح لرانيا أصدقاء جدد من أطفال الشوارع المشردين حيث جعلتهم قسوة الظروف عائلة واحدة تشترك في رحلة التسول وفي بعض الأحيان السرقة.

وعن قصة مولودها (7 أشهر) تقول إنها أنجبته من طفل لا يكبرها إلا قليلا عندما كانت تقيم مع مجموعة من أطفال الشوارع في غرف مهترئة بإحدى “الوكايل” (بنايات قديمة وسط المدينة العتيقة بتونس).

تقول رانية إنها اتصلت بعد الإنجاب بإحدى إدارات الشؤون الاجتماعية وتلقت عدة وعود بحل مشكلها وإيوائها في قرية مخصصة للمتشردين لكنها مازالت تنتظر وهو ما جعلها تتعايش مع واقعها القديم.

يوميات طفل يعول عائلة

ليس بعيدا عن رانية كان هنالك ثلاثة صبية لا تتجاوز أعمارهم خمسة عشر ربيعا، كان هؤلاء الأولاد يتقاسمون السجائر ويتبادلون بعض العبارات النابية متجاهلين تماما ما كان يدور من حولهم.

لكن هؤلاء الصبية امتنعوا عن الحديث لـ”مراسلون” قبل أن يغادروا المكان بسرعة رافضين أن يقاسمهم أي كان تفاصيل حياتهم اليومية التي أصبحت بلا ضوابط ذلك أن جزء منهم يتعاطى الخمر وحتى المخدرات.

تواصلت رحلة “مراسلون” في عالم المشردين القصر وأطفال الشوارع باتجاه ساحة “برشلونة” المحاذية لمحطة القطارات بالعاصمة حيث ينتشر العديد من الباعة المتجولين والمتسولين والمشردين.

في حدود الساعة العاشرة صباحا في ذلك المكان المزدحم بالمارة والسيارات، اجتمع أربعة صبية كانوا يتقاسمون غنائم ذلك الصباح مما جمعوه من التسول وبيع المناديل الورقية و”الشوينغوم” (العلكة).

بسؤالهم عن الدوافع وراء وضعهم هذا قال أكبرهم ويدعى وليد لـ”مراسلون” إن مشقة الحياة الصعبة أجبرتهم على الانقطاع على التعليم والبحث عن لقمة العيش لمساعدة عائلاتهم، على حد تعبيره.

حسب روايته ولد هذا الطفل في عائلة فقيرة تقطن إحدى الأحياء المهمشة، والده دخل إلى السجن لفترة طويلة أما أمه فتشتغل منظفة بيوت بينما هاجر شقيقه في قوارب الموت إلى أوروبا دون عودة.

ولم يلبث وليد أن يختم كلامه وسط مجموعته حتى تقدم نحوهم صديق آخر لهم مصرا على أن يأخذهم معه إلى مقهى قريب بعد أن باع كل المناديل التي بحوزته، فغادر الجميع مهرولين لا يشغلهم سوى اقتسام المال. 

غياب الاهتمام الحكومي

ويعكس هذا الوضع المتردي مدى تفاقم ظاهرة أطفال الشوارع بشكل ملفت بعد الثورة حيث تبدو السلطات عاجزة عن تقديم حلول ملموسة للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة وإعادة ادماج هؤلاء الأطفال.

عن انتشار هذه الظاهرة يقول رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن الطفولة معز الشريف إن قضايا الأطفال تأتي في آخر اهتمامات الحكومة والأحزاب السياسية في الوقت الراهن.

وأكد بأنّ هناك غياب للإحصاءات الرسمية حول مدى انتشار أطفال الشوارع نتيجة انعدام الرقابة الميدانية من قبل السلطات المعنية إضافة إلى ضعف الإمكانات التي تمنحها الدولة لمندوبي حماية الطفولة.

ويقول الشريف إن أغلب أطفال الشوارع منقطعون عن التعليم في سنّ مبكرة، كاشفا بأن أخطر ما في الظاهرة هو ارتفاع عدد الأطفال الجانحين الذين تحال ملفاتهم بالآلاف بتهم مختلفة مثل السرقة أو تعاطي المخدرات.

وكانت وزيرة المرأة التونسية سميرة مرعي أكدت في وسائل الإعلام بأن قطاع الطفولة سيستأثر بالنصيب الأوفر من اهتمام الوزارة وأنه سيكون من ضمن أولوياتها لحمايتها من المخاطر المتفشية في المجتمع.

وأكدت بأن من أهم أولويات وزارتها الحد من ظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم الذي بلغ إلى أكثر من 100 ألف انقطاع سنويا.