نشرت صحف مصرية في 27 مايو 2015 خبر مقتل مصري في الثلاثينيات من العمر يدعى الحسيني كمال في ليبيا بناء على ما وصل لأسرته من أصدقائه، ورجحت الأنباء أن يكون العضو في داعش قد لقى حتفه جراء الغارات الجوية المصرية هناك ردا على ذبح داعش ليبيا لعدد من الأقباط المصريين.
نشرت صحف مصرية في 27 مايو 2015 خبر مقتل مصري في الثلاثينيات من العمر يدعى الحسيني كمال في ليبيا بناء على ما وصل لأسرته من أصدقائه، ورجحت الأنباء أن يكون العضو في داعش قد لقى حتفه جراء الغارات الجوية المصرية هناك ردا على ذبح داعش ليبيا لعدد من الأقباط المصريين.
سمعتُ عن الحسيني في مارس 2011 حين قام مع مجموعة من أصدقاءه السلفيين باقتحام منزل يملكه مصري قبطي يدعى أيمن ديمتري وقاموا بقطع أذنه اليسرى بالكامل وإحداث جروح متعددة بجسده وحرق شقته وسيارته عقابا له على أفعال يرونها مخالفة للشريعة، واعتبر ذلك وقتها أول ظهور لما يشبه لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشارع المصري بعد ثورة 25 يناير 2011.
سافرت لمحافظة قنا في بداية أبريل 2011 وتمكنت من زيارة أيمن ديمتري في منزله بمساعدة الناشطة القناوية هالة المصري والتي لم تصعد معي لمنزله خوفا من أن تلفت إليه الأنظار فقد كان معروفا أن السلفيين يراقبون منزله لتهديده كلما زاره أحد الصحفيين.
حكى لي أيمن ديمتري ما جرى من هجوم عشرات السلفيين على المبنى الذي يملكه وقوتهم إزاء أجهزة الأمن لدرجة أن المعتدين اتصلوا بالشرطة بأنفسهم وهددوا بقتله. كان الرجل مهموما بأن يبرز لي أنه مواطن عادي لديه شقق يؤجرها ويكسب منها وأنه رب أسرة ولا يمكن أن يستخدم أملاكه في الرذيلة كما يدعون، فأخبرته أنه حتى لو فعل فليس من حقهم أن يفعلوا هذا به وحين تحدثت معه عن ضرورة المضي في الإجراءات القانونية انفعلت زوجته وأعربت عن رغبتها في الهجرة حيث لا أمان لهم بعد اليوم وصمت أيمن الذي دعا سيدة عجوز للتعرف علي (هي أمه أو أم زوجته) وقدمت لي عشاءً سخيا يتضمن جبنا وبيضا عندما علمت أنني مسلمة.
في الشهر التالي على الاعتداء على أيمن قامت مظاهرات ضخمة (شارك فيها الحسيني وأصدقاؤه أيضا وفقا لمشاهدات الأصدقاء القناويين) مناهضة لتعيين اللواء عماد ميخائيل محافظا لقنا تضمنت حصار مبنى المحافظة وقطع الطريق السريع وشريط السكة الحديد تحت شعارات طائفية صريحة من نوعية “إسلامية إسلامية” و”لا إله إلا الله النصراني عدو الله” معتبرين أن تعيين محافظ قبطي في محافظتهم للمرة الثانية هو استضعاف لأبنائها وإذلال لهم، وربطت بعض الأصوات المحتجة بين تعيين المحافظ المسيحي السابق مجدي أيوب وارتفاع وتيرة العنف الطائفي ضد الأقباط في المحافظة في السنوات الماضية، وكأن لسان حالهم يقول: احتووا الطائفيين بدلا من إغضابهم.
تحركت قضية أيمن ديمتري على مدار العام التالي لكن بعد الضغط عليه لعقد صلح عرفي مع الجناة برعاية القيادات الأمنية (الشرطية والعسكرية) والزعامات الدينية (الكنسية والسلفية) بالمحافظة خاصة أن الحسيني من قبيلة كبيرة ونافذة، أنكر معرفته بهوية المعتدين رغم أنه حدد اثنين منهما من قبل (هما الحسيني كمال والآخر يدعى علاء عبد الستار) وقبل القاضي هذا وحكم بالبراءة في أبريل 2012.
حاولت الاتصال بأيمن لاحقا وفشلت وعلمت من بعض أبناء المدينة أنه هاجر بالفعل هو وأسرته ولم يتبقى منهم في مصر سوى أحد إخوته.
بالإضافة لموقف الجماعات والشخصيات المنتمية للتيار الإسلامي والتي بالطبع تؤيد أو لا تعارض على الأقل مثل هذه الأحداث، استخف بها أيضا الكثير من المحسوبين على القوى المدنية أو الديمقراطية بل واعتبرها بعض الديمقراطيين حراكا شعبيا احتجاجيا وألبسها البعض ثوب الدفاع عن المدنية بدعوى أن الاعتراض على المحافظ لكونه من الشرطة رغم أن المحافظ المسلم الذي تم إحلاله محله كان شرطيا هو الآخر (اللواء عادل لبيب).
دعم الإخوان المسلمون الدعوة لتغيير المحافظ المسيحي دون أن يرفعوا رسميا مطالب طائفية لكن كوادرهم على الأرض اشتركت في الفعاليات. في تلك الفترة كان السلفيون هم المتصدرون للمشهد الطائفي والاخوان كانوا داعمين أحيانا أو مكتفين بالصمت المتواطئ أحيانا أخرى. فعام 2011 كان عام وحدة الصف الإسلامي بامتياز حيث انطلقت الدعوة للتصويت بنعم على التعديلات الدستورية حفاظا على الشريعة وبدء الخلافات مع القوى المدنية أو الديمقراطية والتقارب الإسلامي مع المجلس العسكري. ونفوذ الاخوان بعد الثورة وغيرهم من المجموعات الإسلامية “الرسمية” أمن ظهر السلفيين في أعمالهم العنيفة والتحريضية على الأرض استفادة بالحلف القوي في تلك الحقبة مع المجلس العسكري المتبدي في الاتفاق على ترتيبات المرحلة الانتقالية وإخراج الجهاديين من السجون.
يدعونا انكشاف مصير الحسيني للتأمل في مسار حياة ونشاط الجيل الجديد من الإسلاميين الذي برز مع الثورة، وخاصة في ظل التطورات التي حدثت في مصر بعد عزل الرئيس الإسلامي محمد مرسي وبدء مرحلة من الحرب الضروس بين الدولة والجماعات الإسلامية المختلفة التي لا تعترف بشرعيته في إطار حرب أكبر على مستوى المنطقة.
يطرح البعض شعار “القمع يولد الإرهاب” مفسرين ارتفاع وتيرة استخدام العنف بين المنتمين للتيار الإسلامي بالقمع العنيف الذي تمارسه الدولة منذ ما بعد عزل مرسي. لكن انتماء الحسيني للتيار الإسلامي وسعيه لإنشاء المجتمع الإسلامي لم يبدأ بعد “الانقلاب” بل بدأ منذ مارس 2011 مع الصحوة الإسلامية التي انطلقت مع سقوط نظام مبارك والإشارات القوية التي أرسلتها لجماعة الإخوان المسلمين لباقي الصف الإسلامي بأن الوقت قد حان لتحقيق الحلم الإسلامي.
تزامن ذلك مع إفراج المجلس العسكري عن مئات الجهاديين القدامى، وانخراط جيل جديد من الإسلاميين في أنشطة تهدف بالأساس لتحيق الحلم الإسلامي بعد الثورة مثل الاشتراك في فعاليات دعم المسلمات الجدد (مثل عبد الرحمن سيد أصغر المتهم في قضية عرب شركس والمنفذ فيه حكم الإعدام في 17 مايو 2015 والذي ذهب لسوريا أيضا للقتال هناك لأول مرة قبل عزل مرسي)، أو بالانخراط في أعمال طائفية عنيفة في مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالحسيني كمال وأصدقاءه، في حين سار بعضهم في المسار الديمقراطي السلمي من تكوين أحزاب والترشح في الانتخابات مثل أحمد الدروي الذي اندلعت الثورة وهو في الثلاثينيات أيضا وانضم لحزب التيار المصري الذي أسسه عدد من شباب الاخوان المستقيلين وترشح للبرلمان في إحدى دوائر القاهرة وانتهى به الحال انتحاريا في إحدى عمليات داعش العراق بعد عزل مرسي، واللافت للنظر أن زملاءه من مؤسسي الحزب من معارضي “الانقلاب” السلميين مثل إسلام لطفي نعوه على صفحاتهم على الفيس بوك مبررين انضمامه لداعش بالحلم الذي كسر في قلبه.
أما لو نظرنا خارج مصر قليلا لرأينا أن تونس التي اتخذت فيها التطورات مسارا آخر يتسم باحترام الإجراءات الديمقراطية لانتقال السلطة بعد الثورة من أكثر الدول العربية التي تخرج منها أفواج الجهاديين للانضمام لصفوف الدولة الإسلامية.
يبدو أن الرسالة التي كانت تكررها منصات اعتصام رابعة من أن إحباط حلم دولة الإسلام سيؤدي للإرهاب رسالة حقيقية لكنها ليست دقيقة تماما. فالخيار الجهادي سواء مع جماعات كأنصار بيت المقدس وداعش وخيار الأسلمة الشعبية العنيفة على المستوى المحلي أو التعبئة الطائفية المحلية بمسيرات واحتجاجات مآله واحد في النهاية.
لقد قدم الإخوان للجمهور الإسلامي العريض ثورة يناير 2011 على أنها الفرصة التاريخية لهم فانطلق الحسيني في إنشاء دولته في حيزه المحدود في مجتمعه القناوي مطمئنا لقيام الأحزاب الإسلامية الأكبر بتأسيسها في مصر كلها بالإجراءات الديمقراطية، وربما لو كان حلم الحسيني أو أحمد الدروي تحقق في مصر لما اضطرا للذهاب لليبيا والعراق للانضمام لدولة إسلامية “حقيقية”.
تَرك الحسيني والدوري مصر ليُقتلا في دولتهم المنشودة لكن أيمن ديمتري هو الآخر ترك بلاده وربما لم يكن يتوقع أن تقوم الدولة المصرية بضرب الحسيني وزملائه في ليبيا حين أهانوا هيبتها بذبح أقباط مثله أمام العالم، فهي ببساطة لم تتحرك لتدافع عنه من الحسيني وزملائه بل شجعتهم وتواطئت معهم ضده.
قد تكسب الدولة المصرية حربها مع المنظمات الإرهابية لكن أيمن خسر حقوقه في بلده ولا يبدو أنه سيستعيدها قريبا طالما بقت الدولة ضالعة في انتهاك حقوقه ومتواطئة مع القوى الرجعية في المجتمع ضده وبقت القوى الديمقراطية عرضة للابتزاز وميالة للاستخفاف بتحديد وجود الأقليات في مصر.