1

صورتها هذه المرة في محل غريب ومدهش.

لافتة تحمل شعار: دستور لكل المصريين.

سعاد حسني تنظر تلك الابتسامة المليحة بكل ما في طاقتها من بهجة لملمتها من الدنيا القريبة منها.

سعاد منحت نفسها للصورة لتشاركنا بعد سنوات طويلة وبعد طيرانها من شرفة لندنية…في دفاعنا عن حياة يريد أمراء اليوتوبيا الدينية اختطافها.

1

صورتها هذه المرة في محل غريب ومدهش.

لافتة تحمل شعار: دستور لكل المصريين.

سعاد حسني تنظر تلك الابتسامة المليحة بكل ما في طاقتها من بهجة لملمتها من الدنيا القريبة منها.

سعاد منحت نفسها للصورة لتشاركنا بعد سنوات طويلة وبعد طيرانها من شرفة لندنية…في دفاعنا عن حياة يريد أمراء اليوتوبيا الدينية اختطافها.

سعاد حسني ضربت كل التوقعات.. خرجت عن كل قيد يكبل حريتها.. هي القلقة المتوترة بين اقصى تبتل للقديسات وأقصى تطرف للمتحررات… سعاد التي عاشت على الحافة.. وفي قلب مغامرة بحث غامضة عن شيء مجهول في روحها.. هذه الأنثى الطاغية الباحثة عن الحب والنجمة التي راحت ضحية بحثها عن صورتها خالدة النضارة. 
وهي غير سعاد التي تحاصرها روايات تحبسها في سير منضبطة علي مقاس العائلات الأليفة.
 سعاد لم تكن على مقاس جمهور يضع نجومه كالتماثيل في المتاحف.. استمتعت في حياتها وبعد رحيلها المثير بحب الجمهور وبصعودها إلى مصاف النجمة الأولى.. وهي الدرجة المحجوزة لنوعية خاصة جدا من فنانين يختزلون حياتهم كلما اقتربوا من هذه الدرجة ليتحولوا بالتدريج إلى “كائنات مقدسة” لا تخطئ.. ولا تمارس حياة تشبه البشر العاديين.

أم كلثوم مثلا بذلت جهدا خارقا في إتلاف صورة التقطها لها مصور صحفي على الشاطئ وهي ترتدي مايوه أسود وكانت الصحافة تحرص على أن تصفها دائما بأنها لا تدخن ولا تسرف في شيء. وكذلك فاتن حمامة تركز الصحف على قرارها بالامتناع عن القبلات الساخنة واعتبار ذلك “مثالا أخلاقيا نادرا”. 


كان على النجم صياغة صورته كما يفعل الزعماء بلا رتوش ولا هفوات ولا حركات طائشة ولا رغبات ولا ألم زائد أو فرحة غامرة، مقاييس دقيقة لصناعة مثال (او تمثال) مطلق. سعاد حسني خدشت هذه الصورة عاشت حياتها على الشاشة وخارجها.. بالطول والعرض.. كانت أمام الكاميرا سمكة في البحر.. وفي الحياة طفلة شقية تبحث عن رغبات مجنونة وتلهث وراء اشباع حرمان أبدي. ورغم أن أخبار مغامراتها العاطفية وزيجاتها والشائعات حولها كانت حاضرة على الدوام في صورتها أمام الجمهور إلا أنها لم تخسر موقع النجمة التي عبرت كما لم تعبر غيرها عن شقاء وعذاب وفرح وتألق المرأة.

2

لم تكن سعاد حسني تؤدي دورا في الحياة، بل كانت تشعر بحرية وتكسر “الدور المكتوب”. تخرج عن النص الاجتماعي والفني تغني وترقص وتحب وتشتهي.. أحبت التمثيل حتى الثمالة. خسرت بسببه الحلم بحياة هادئة ومشروع بيت مستقر وظل رجل وغريزة أمومة جارفة. ظلت سعاد حسني على الشاشة جسدا حرا يفسح مساحة واسعة للروح تنطلق وتملأ المسافة بين السينما والواقع بشحنات نارية.. هذه الشحنات تفسد كل محاولات ترويض الطفل الدائم النائم بداخلها.

هذه الطفولة الهاربة من التحنيط الحي..هي ما جعل سعاد تشاركنا حرب الدفاع عن البهجة.

3

“الست” هي أم كلثوم كما عرفناها في بيوت أفندية الطبقة الوسطي الصاعدة عبر التعليم/والوظيفة في جيش الدولة الجرار من الموظفين.

كانت أم كلثوم هي “المرأة” أو “الأنثى الكبيرة ” بتعريف الألف واللام …ويدللها نفس الجمهور “ثومة ” وتتراقص هي على المسرح بين الوقار والسلطنة لتثير بالصوت والأداء/قبل الكلمة واللحن مشاعر التجول الحر بين قوة مسيطرة وحس يلهث وراء نشوته.

المستبدة…تصحبك إلى النشوة أو تقودك إليها، هذا هو سر أم كلثوم مع جمهورها /كما شعرت به عندما شرح ابي لي قصيدة “الاطلال..” و عندما وصلنا إلى مقطع و”…عدونا فسبقنا ظلنا….” تخيلت أم كلثوم تطير وتقفز من السعادة /وبعد سنوات اكتشفت أن أحد أسرار أم كلثوم أنها وهي الوقورة المسيطرة لديها من الخفة ما يهز الأجساد الخاملة ويحرك الحواس المتجمدة.

أبي متعته الكبرى/والوحيدة الآن هي سماع صوت الست/أنها أصبحت ملخص عالمه السعيد /وتقريبا هذا حال من شهد لحظة وضع السلطنة القديمة على مسرح حديث….كيف ترى ما لايمكن أن تتخيل وقوعها في العشق/وهي تحرك المسرح الجامد من انتقالاتها بين المقامات وبين السيطرة على الموسيقى والامتلاء بها..

4

أم كلثوم  من ربات الصوت الكبيرات في العالم…وهي أسطورة بمعني مختلف عما كانت تمثله منيرة المهدية ..آخر خيط في مفهوم “السلطنة” القديم…ومنيرة سميت السلطانة…باعتبارها المسيطرة على مكانها المغلق/المحدد/في صناعة البهجة/والسلطنة. كل منهما “ست” كبيرة صنعت مكانتها بصوتها الذي مازال المهووسون دينياً يهتفون بأنه “عورة”.. 
انتهت الحرب بينهما على عرش “المغنية الأولى..” بصعود أم كلثوم وانسحاب منيرة إلى عوامتها الشهيرة وحيدة مع قطها الأسود.


كانت صورة أم كلثوم في تلك الفترة “فلاحة” نجحت في اقتناص فرصة الصعود إلى عرش الغناء لتصبح بديلة سلطانة الطرب.. والحرب بينهما وصلت إلى حدود الخوف من القتل. ولم يكن القتل بعيداً عن صراع المطربات على العرش.. ولم يكن غريباً مثلاً أن تنتشر في تلك الفترة شائعة عن أن أم كلثوم هي التى دبرت حادثة موت أسمهان. بل إن منيرة المهدية أوقعت صحفي في غرامها لكي يجند مجلته لهدم سمعة وسيرة أم كلثوم.


في الحوار التليفزيوني تقول منيرة: “.. أم كلثوم كانت تعمل ليلة واحدة في الجمعة.. لكن أنا كنت كل ليلة على المسرح..” وتحكي أم كلثوم عن زيارتها لمنيرة في عوامتها: “.. سمعت من (محمد) القصبجي أنها مريضة فقلت له أن يصحبني لزيارتها وهناك حصل منها موقف طريف فهي قدمت لي كازوزة (أي مشروب مياه غازية) على سبيل الضيافة.. وقبل أن أشرب منه سبقتني وتناولت منه جرعة وهي تقول لى علشان تشربي وتطمني..”.


منيرة في حوار لها بمجلة “الكواكب” روت الواقعة من وجهة نظر أخرى وهي أن: “..أم كلثوم تركت الزجاجة التي أمامها وشربت من الزجاجة التى أمام القصبجي.. وتضايقت أنا من هذا التصرف . وأردت أن أبرهن لها أن الدار أمان.. فأخذت الزجاجة من أمامها وشربت منها..”.
.. ومنيرة المهدية كما تقول عن نفسها في الحوار مع أماني ناشد: “أنا كل فكري وعلامي من دماغي. هربت من المدارس النظامية. وأصبحت أول مصرية مسلمة تقف على خشبة المسرح في حادثة هزت البلد وعروش الرجال وفتحت الطريق أمام خروج المرأة من الحرملك”.. بل وأصبح مقهى “نزهة النفوس” التي امتلكته في عزها يسمى بين المصريين “هواء الحرية”.


“زكية حسن منصور” الطفلة المولودة في قرية مهدية التابعة للابراهيمية بمحافظة الشرقية عام 1885 ربت نفسها لتصبح هي المغنية المشهورة منيرة التي تنتج لها “بيضا فون” (أشهر شركات التسجيل وقتها) اسطوانات تقول في مطلعها:”.. الله الله يا اسطى منيرة المهدية”.

5


وعلى عكس أم كلثوم التى حفرت طريقها برعاية أب مسيطر وعائلة تحولت إلى كورس لها في الحفلات الأولى.. على عكسها مات والد منيرة وهي رضيعة وربتها شقيقتها الكبرى في بيتها بالاسكندرية مع زوجها الذي كان من الملاك الزراعيين.

جمهورها الذي لم تتعوده هى نفسها بين قرى الفلاحين وغير الجمهور الذي اعتاد أن يسمع الطرب والغناء في القاهرة، إنه جمهور السوريين والأفرنج ثم الشباب المثقف من أولاد الاعيان وأثرياء الزراعيين في الريف.. وهو في حقيقته جمهور الطبقة الوسطى في المدينة وهي كما يقول فتحى غانم في كتابه “الفن في حياتنا”: “..الطبقة التي بدأت تنمو وتتسع مصالحها في مصر. ونحن نعلم اليوم أن الطبقة الوسطى هي التي زاملت أم كلثوم في صعودها الفني وهي جمهورها المخلص حتى الآن فمنذ جاءت أم كلثوم إلي القاهرة ابتعدت نهائيا عن طبقة الفلاحين الأجراء إلا في أغانيها ذات المعاني القومية أو الاشتراكية التي تمس مصالح هؤلاء…”
. والبداية من الريف والانتهاء بالبرجوازية الصغيرة الصاعدة في العاصمة هو الطريق الذي سار فيه كل أبطال هذا العصر: من طه حسين وعلي عبدالرازق مرورا بسعد زغلول وحتى أم كلثوم.. كانت رحلات صعودهم علامات هذا العصر ومؤشره الفكري في حين ظلت مصانع القيم المتصارعة على هوية مصر بين الشرق القديم والغرب المنتصر.. تعمل بقوة وعنف.