1

 

1

يا وردة القاهرة في أي ارض أتركك وديعة‫؟ أخاف عليك من عشاق تمزقهم الغرائز المشتعلة من فرط الحرمان‫. أخاف عليك من نفسك‫. من سائق التاكسي الذي نظر إليّ بحنو كأنه يستقبل ضيفاً يهنئه بالزفاف السعيد أو يعزيه في موت عزيز ‫… السائق شاب يودع الثلاثين بكل ما يملكه من إلهاء الذات عن مصيرها‫. هو مثل ملايين غيره في حيّ امبابة طريقهم محفورة قبل الولادة وبعد الموت، تتسلم السلالة المواقع والمصير. كلهم سيبدأون بقيادة الميكروباص قبل أن تمنحهم قوانين الحكومة حق الترخيص‫. للحكومة أعمارها وللناس أعمارهم. فروق الحسابات هي التجارب الأولى فالضابط سيقابل ‫“محمود‫“ ويسأله عن الرخصة، بعد أن أعيت المناقشات أمين الشرطة، وهنا سيقول له محمود المقولة الخالدة‫: ‫“..عندنا في العزبة‫…اللي يكمل ١٦ يبقي سواق‫..”.

سار إلى قدره بينما الأمناء قادمون من ناحية البحر من القسم المطل على النيل، والقريب من الكيت الكات، الذي كان قبلة ملك مصر الأخير فاروق الأول للمرح واللهو، الذي قالت عنه حكومات الضباط الأحرار إنه لم يكن بريئاً‫. مازالت ذاكرة الحاشية تتذكر شكل علامات الإطارات عندما كان الملك يصل هناك في ساعة متأخرة بأقصى سرعته، ثم يضغط على الفرامل لتدور السيارة عدة دوائر، وتترك علامات على هوايات يملأ بها الملك فراغه‫ الذي تعرفه عيادات علم النفس من ملك تسلم القبضة من أبيه بينما كانت روحه رهن قبضة المربية النمساوية والأب الملك الذي يترك علامات أسنانه الحادة على رقبة الأم. ألعاب تملأ فراغ الروح المتسعة وترن كسيراميك حرص صُنّاعه على اختيار حبات الرمل. القدرة على اختيار الخامة تخص الملوك، أما ابن عزبة الصعايدة فالخامات لا تهمه. يقود علبة صفيح أسماه المخترع المصري‫ ابن الحيلة “رمسيس” إشارة إلى مجد قديم عله يغفر رداءة الصنع والحد الأدنى من خامة صناعة السيارات. هي الحاجة أم الاختراع. الحاجة التي تعيد تشكيل الخامة بما يسمح لساكن تلك الأرض أن يلعب في فراغه كما يلعب الملك.

2 ‫

…يجلس ‫“ محمود ‫“ في مقعد القيادة كما يجلس تقريباً أمام بيته منتظراً شاي العصاري في صورة رسمتها روايات قديمة وكروت بوستال عن سكان القاهرة‫.. وبالتحديد أفواج الريف الذين تلونوا بالمدينة، لكنها كانت مجرد لون يزول مع المحن أو هزائم الدولة الحديثة التي يكشف تأمل تاريخها أنها ضد حداثتها‫… أو أنها تخزن تلك الحداثة لسكان طبقاتها العالية. أما الأدوار السفلية فتحتاج نظرة “…ياخوانا ياللي فوق ….ماتبصوا على اللي تحت “ غناها عدوية في لحظة فقدان القاهرة لانسجامها الستيني الرصين، حين كان جمهور أم كلثوم يذهبون إلى حفلاتها بما يليق من فساتين وبدل الموضات الأوروبية والسجائر الامريكية كأنهم في احتفال بصعود طبقي أو تأكيده باستعراض ملابس اختفت في دواليب الطبقة الحائرة التي لا يتذكرها “محمود ..” وهو يتحدث عن أن “الحياة تسير ..” ليس مشغولاً بكيفية هذا السير لأنه مثل أقدار محفورة في معابد الطبقات المزركشة بالنوستالجيا..كل الطبقات تستعيدها ككتب مقدسة عن “الزمن الجميل..”…النوستالجيا النصف الآخر لـ ‫“الحياة تسير“. ياوردة القاهرة التي توقفت بك الحياة لحظة في شوارع الزمالك، وحسناء الخامسة والعشرين تميل بجسدها من السيارة الكابورلية وتغني بما شحنت الخمر صوتها من رقة وعذوبة وغضب مجتمعين. المشهد كانت مستقطعاً ويثير ابتسامات وشغف وقلق من علاقة الواقع بالسينما أو بقدرات الواقع على تحول الخيال إلى قط أليف يزمجر بجوار السيارات النائمة بجوار الرصيف، لكنه عندما تقترب منه يقفز باحثاً عن مساحة آمنة.

3

كما أن المدينة لم تمنح فرصة لأهلها الريفيين المحشورين من زمن الأحلام الستينية الجميلة‫.. زمن ‫“وبالية على الترعة واوبرا ‫“، الذي لم يجعل الريفيين ينتظرون المعجزة في قراهم لكنه عجل بأحلامهم، ليلتحقوا بمصانع امبابة أو بجامعات الجيزة وعين شمس، ويستهدفون مكاناً بين جيش موظفي الدولة ‫.. المدينة هدية الآلهة الحاكمة لنفسها‫.. وحرموا بوعيهم أو لاوعيهم ربما السكان من فرصة ‫أن يشاركوا في المدينة التي مازالت بعد 200 سنة صناعة آلهة يشعرون بالفراغ وباستحقاق أن يحكموا شعباً أفضل وبلداً أجمل. والمؤسسون ملأوا الفراغ بتفاصيل مدينة يمكنهم أن يعيشوا فيها لتكون أجمل من باريس أو لتكون مغناطيس هجرات وصل في إحداها الخواجة السويسري جياكومو جروبي، الذي يحب الملك فاروق الشوكولا التي يصنعها بوصفة سرية مكتوبة باللغة الفرنسية، ولا تزال اليوم ممنوعة على صُنّاعها رغم أننا في زمن ‫“الحياة تسير‫“ ‫…حيث امتص البزنس مان الإخواني “عبد العظيم لقمة” التاريخ الشهي للملكية والحداثة ليضعها في قائمة ممتلكات ‫…ليمحو ألوانها ويبدأ بإلغاء البار، ثم يترك جدرانها عارية ‫…إلا من نوستالجيا تنعي ملتقى كان تجلس فيه ‫“كريمة الطبقات‫“ لتتذوق ‫“كريم شانتيه ‫“ أدخله الخواجة جي‫. جروبي مع ملذات المخابز الأوروبية المتنوعة من كرواسون رفيق الأفطار الذي يحمل صاحبه إلى مقام مختلف يكمله بذوبان المارون جلاسية ‫…أو الآيس كريم‫…الذي تقول الأسطورة إنه من فتوحات الخواجة ومساهمته الجبارة في مقاومة حرب القاهرة ورطوبتها. وكانت تصل إلينا نحن أطفال السبعينات في الدلتا مع ثلاجات تصل أسبوعياً إلى محلات البقالة المميزة كبضاعة تستقطب زبائن يبحثون عن هدايا من عالم بعيد‫…ويقيمون احتفالات شخصية بالعثور على نصيب من ألواح مغلفة بورق فضي يكشف عند فضه الممتع عن طبقة رقيقة وصلبة من الشوكولا الجروبية تطل أسفلها كتلة الحليب المثلجة بمذاقها الحسي والطبقي المميز.

وها أنا بعد كل هذه السنوات انتظرك ياوردة القاهرة في جروبي بعدما تحول إلى صالة جرداء‫…بعد عبور مدخله الجانبي بعيداً عن فسيفساء المدخل في وضع باهت لا يحمل من الأسطورة إلا اسم صاحبها ‫….وثلاجة كبيرة تعرض قطع الجاتوه الكلاسيكية، لكنها تفتقد شيئاً ما لم يشغلني في أول خطواتي العملية لأكون مواطناً قاهرياً‫…بل أنني رحلت قبل وصولك يا وردة القاهرة لأن الجرسون المتروك كأنه في متحف مهمل‫…لم يدرك أنني أبحث عن طريقة للدخول في المشهد الأثيري تدشيناً لرحلة التعميد مع المدينة ‫…لم يكن الجرسون حنوناً بما يكفي لاستيعاب غربتي أو بحثي الملهوف عن حبيبة تنتظرني وخفت أن أتأخر عليها‫. تلك الرومانتيكا صنعتها صور الحلواني السويسري الذي رأيت صورته بعدما تأكدت قاهريتي واحترت في أمره بعدسته الدائرية وشعره الحليق كمحارب مافيوزي أنيق لا صانع حلوى يصنع أساطير الرفاهية وعلامات الدخول في الطبقات الراقية من مجتمع غريب مدهش لم يعطل ‫“ محمود ‫“ عن سرد تفاصيل ‫“ سير الحياة‫“ ‫..لم يلتفت محمود أثناء عبورنا البطيء ‫(بسبب زحام رمضان‫) بجوار مدفن الأسطورة في قلب ‫“طلعت حرب‫..”..كان مستغرقاً في الحكي بدون شغف عن الوصفة السرية لجروبي لا نعرفه‫.

4

‫“..أنت بالتأكيد لا تعرف الجروبي؟‫…”

أُدرك قبل سؤال الإثارة أن ‫“محمود‫“ لن يتكلم حول اختفاء الملابس الراقية والزبائن ‫“الهاي لايف‫” أو المذاقات الساحرة التي تبدو معتقة في مكان يصعب اكتشافه من منظومة جروبي الموزعة بين ”سليمان باشا“ و“شارع عدلي” ولا يدرك الباحثون عن “الخامات“ أنها لم تذهب إلى مستودعات النوستالجيا فقط… أدركُ قبل انتظار الإجابة أن ‫“محمود‫“ ليس خبيراً بالتعتيق الذي ما زال سارياً، بينما ورثة ‫“لقمة‫“ غادروا مصر وعاشوا في أوروبا ولا يهتمون بالمنظومة كلها‫…

‫“جروبي“ لديه “حياة تسير“ رغم أنه أصبح رقماً في مُلاك لاهين عن أحلام الخواجة السويسري أو الأب الاخواني في حيازة “مساحة من الذوق المؤثر“ كل بطريقته..ولم يتوانَ “محمود“ عن تبديد مخاوفي أو تأكيدها :”…الجروبي بتاعنا غير اللي أنت تعرفه‫…” وشرح لي: ..الجروبي عندنا هي الفتافيت المتبقية من الجاتوهات في المحلات الكبيرة‫…وهي ما يمكن لمحلات الحلوى عندنا أن تشتريها وتعيد تشكيلها في قطع أخرى لها قوام ومذاق مجمع ونسميها جروبي‫…”

ليس مهماً أن يكون أصل ‫“الجروبي“ الذي يقصده محمود هو ‫“جروبي‫“ الخواجة وأولاده‫.. لكنه ‫“مفهوم‫” يضع علامة مستوحاة من رموز طبقات وحياة علي تكوينات ‫“الحياة تسير‫..”

5

أردت التعرف على بقية القائمة‫.

إذا كان الحلو‫ ”جروبي‫” فماهي الوجبة الرئيسية؟ ‫…لم ينتظر ‫“محمود ‫“ أن أسأله، متخذاً موقع ‫“منظّر‫“ و‫“داعية“ فلسفة “الحياة تسير”، ولهذا خفت عليك منه ياوردة القاهرة‫.. من اندماجه الكامل في ‫“المنظومة“ أو في ‫“دعنا نخترع أساليب البقاء ‫..” و‫“نمارس عدالتنا بطريقتنا‫.. ونتقاسم معكم الملذات ‫..”… خفت أن يعرض عليك الزواج وينتابك ضعف موسمي ينتابك مع ‫“الكفحتية‫..” و‫“مناضلي الحياة اليومية ‫..” ‫… وهو سيعود إليك كل يوم بوجبة شهية من أفخم أنواع اللحم،‫”..تعرف يا أستاذ البواقي اللي بتفضل في أطباق اللحم ‫.. تعرف بيحصل فيها إيه‫…؟‫ لا يرميها صاحب المطعم الفخم في الزبالة… لكنه يجمعها ليبيعها من جديد لمورد من أبناء منطقتنا‫… هذا المورد يبيعها لمطاعمنا المشهورة بالمذاق الراقي‫… ويقومون بغسلها جيدا‫..ثم غليها وتقديمها لزبائن الذوق الرفيع من أهل المنطقة‫…”.

أعرف أنك ستحتاجين حصة يوجا بعد سماع السائق المندمج عضوياً لاهياً عن الغضب منتظراً أن تتحرك الدنيا كما تتحرك أصابعه في الصندل المفتوح من الأمام‫… والذي يدخل الهواء مباشرة بدون تقنيات الفجوات في جلد الأحذية الفخمة‫ المتطورة في البحث عن راحة تبدأ من القدمين‫… هل تعرفين يا وردة القاهرة أن ‫“جروبي‫” افتتح محلاته قبل حملات مقاومة الحفاء في مصر؟ وأن من يشتري أحذية فخمة لا يعني أنه لن يهجم عليك ذات يوم في واحدة من حفلات العيد المحتفية بالجنس كاحتفال جماعي للبحث عن فريسة ‫.. هم طيبون، ضحايا، يجتهدون في شراء خامات الطبقات العليا أو إعادة إنتاجها‫.. لكن الأحذية لا تساعدهم على الانتقال أو الصعود أو السير حتى في ممر الطبقات‫… تساعدهم فقط في عملية صيد موسمية للغرائز‫… هم يدركون أن المتعة عملية تحتاج إعادة إنتاج معقدة واستعراض يوقف الحياة عن السير العادي‫… ساعتها يتحولون من ضحايا إلى مجرمين وهذه تجربة قاسية ومؤلمة يا وردة القاهرة‫.