إمتلأت صفحات الفيسبوك بإعلانات فيلم فتاة المصنع. الفيلم الجديد للمخرج محمد خان يا عواطف. يبدو أننا سنشاهد سينما جيدة أخيرا. طيلة ثلاث سنوات لم نشاهد هذا الضوء خاطف البصر والقلوب لثوان. خان أتى بهاني عادل أحد أعضاء فرقة وسط البلد كبطل لفيلمه. سؤال وجودي لا أستطيع مواجهته بخصوص هاني عادل يا عواطف: لماذا إن أراد المخرجون الحديث عن جيلنا في أفلامهم أستعانوا بهاني عادل؟
إمتلأت صفحات الفيسبوك بإعلانات فيلم فتاة المصنع. الفيلم الجديد للمخرج محمد خان يا عواطف. يبدو أننا سنشاهد سينما جيدة أخيرا. طيلة ثلاث سنوات لم نشاهد هذا الضوء خاطف البصر والقلوب لثوان. خان أتى بهاني عادل أحد أعضاء فرقة وسط البلد كبطل لفيلمه. سؤال وجودي لا أستطيع مواجهته بخصوص هاني عادل يا عواطف: لماذا إن أراد المخرجون الحديث عن جيلنا في أفلامهم أستعانوا بهاني عادل؟ بالنسبة لي هاني عادل ثقيل الظل جدا ويفتقد اولى درجات القبول من خلال الكاميرا، فضلا عن أنني لا أحب القيم والأدوار المُنمطة ثقافياً التي يقدمها في السينما_أعلم أن دوره في فيلم فتاة المصنع مختلف_ تمثيله غير الحي يجعلني لا أصدقه يا عواطف، ورغم ذلك سأمر للسينما لمشاهدة الفيلم.
أنت تعلمين بحبي للسينما يا عواطف. كنت أذهب لسينما الزيتون المصنفة بالدرجة التالتة وأنا لم أكمل العقد الأول من عمري. كنت أذهب رغم علمي بتواجد كمين لضباط الداخلية أمام السينما للقبض على الأطفال الصغار الذين يهربون من المدرسة إلي السينما. كان هذا روتين يومي لهم أمام سينمات الدرجة الثالثة والحدائق العامة، ليتمكنوا من تقفيل أكبر عدد من المحاضر كل يوم.
كنت أذهب وحدي لأشاهد فيلم عربي و فيلم تركي. كان بالإمكان إن فاتك عرض أحد الأفلام أن تستمري للحفلة التالية يا عواطف، ولا أحد يسألك الخروج من أمام تلك الشاشة الضخمة. كانت السينما تمتلئ بالأطفال والشباب العاطلين عن العمل. كانوا جميعاً أيا كانت أسبابهم للمجيء يعشقون السينما وتلك الستائر المسرحية الحمراء التي تنسدل كل حفلة، والمشروب السيء الذي يقدمه “عم لبيب” عامل البوفيه في السينما، الذي لم يعرضه أبدا على أي منا نحن الأفراد الشباب.
كان “عم لبيب” يعلم جيداً من أين تؤكل الكتف، فأغلب الأفراد في “الصالة” قد تقاسموا حق التذكرة معاً، فكان يذهب للدرج الأعلى ويعرضه على كل شاب وفتاة مستقلين في “البلكون” بمقاعد جانبية تُثمن تذكرتها بخمسة جنيهات. كان يقتحم خلوتهم ويعرض مشروبه السيء ويلحقه بعبارة “رزقي ورزق عيالي يا بيه”. في تلك الظروف يجبر الشاب على شراء المشروب السيء، فشراؤه يعني رضا السينما المتمثلة بشخص “عم لبيب” عنه هو وصديقته طوال الحفلة.
لم يكن هناك تحرش في السينما يا عواطف. مهما زاد العدد ومهما بلغت المشاهد جمالها. كان هناك حالة من السلام تعم الجميع. كل يلهو على ليلاه. كنت أذهب في الأسبوع أكثر من ثلاثة أيام. “إيهاب” أيضاً كان يذهب كثيرا للسينما ويتابع أكثر مني. تعرفت عليه ذات مرة حينما إرتفع صوت “شخيره” الثلاثيني بالمقعد المجاور لي عن صوت ممثلي الشاشة، فقمت بتنبيهه وإيقاظه، فاستجاب وتابع الفيلم حتى إنتهاء حفلتي وعرفنا بعضنا البعض. كانت التذكرة بثلاثة جنيهات، وقيمة المرور لهذا العالم لا تقدر بمال يا عواطف. كنا نمشي في الشوارع أحرار رغم صغر سننا، غير عابئين بطموحات شعب بفرص أمانه الضئيلة، وحدنا كنا نعلم أننا لا ننتمي إلا لأنفسنا. كان للحماس لهيب في صدورنا يا عواطف، كنا نمر للشوارع بأى وقت نشعر بأن الكون لن يسعنا جميعا، كنا نمتلك المال الكافي لنستقل المترو ولكننا كنا نصعد على “السبنسة” ليصطدم الهواء بصدورنا فيزيد لهيب الحماس إشتعالا. كانت المغامرة تحركنا، وها هي الأيام لهت بنا وسخرت ولم يعد الحماس يحركنا، ننكر، ونستعيض بصمتنا ونصفه بالحكمة.
الأزمة يا عواطف أن الواقع لم يغتل حماسنا مرة واحدة. لقد قُتل حماسنا تدريجياً يا عواطف. النهايات البطيئة التي تستنزف الروح لا تعود، على عكس النهايات السريعة يا عواطف. كان الأمر متعلق بالحب والحلم لبعض فتية مراهقين، يعلمون الجاني دون مرافعة ويعلمون المظلوم دون إثبات الأنين. بتنا نتعامل مع الكوراث ببرود يستفزنا أنفسنا، والغريب يا عواطف أن تلك المعادلة تنجح، وكأننا نعاقب على أن حيويتنا كانت أكثر سخونة من تلك البلدة.
رحل الإخوان عنا يا عواطف، وهاجم “تامر أمين” و”جابر نصار” ملابس الطالبة التي تعرضت للتحرش الجماعي في جامعة القاهرة على غرار مقولة أحد صبيان الإخوان “إيه اللي وداها هناك”. كنا نأمل بأن نجد حلولا لكل هذا يا عواطف، فما من أحد غيرنا رفض الظلم والعنصرية والفقر والقمع وأعلن عن موقفه من السلطة مثلنا. نحن فقط يا عواطف من حاربنا على تلك الأمور، مثلما حاربنا للمرور للسينما صغاراً. والآن بعد فشل كل شيء، ومسخه كما مشروب “عم لبيب”، يريدوننا أن نتكاتف ويدجنون إعلامهم لحشد الشباب الذي يعتقلونهم ويقتلونهم جهاراً.
الشباب قاطعوا الإستفتاء الأخير في بلادنا يا عواطف. كانت أجواء مريعة، فقد قبض على أحدهم لأنه صوّت بالرفض في الإستفتاء. كان التدجين لنعم، ولمَ لا إن كان الإستفتاء كان على شرعية السيسي وليس الدستور؟
قاطع الشباب يومها هذا العبث، أيا كانت أيدلوجيتهم السياسية يا عواطف. شاهد الجميع غياب جيل الشباب، لم يحضر أحد .. الإ جيل الآباء والأمهات. المسألة مؤسفة كما أخبرني الصديق “سيد معجزة” أحد أبناء المطرية الأحرار يا عواطف “نزلنا عملنا ثورة من ورا أهلنا، فنزلوا ادام عنينا وبوظوها”.
هذا الجيل ومفهومه الفاسد عن الحقوق والواجبات والحرية والنفوس الحرة وثمن أن تكون حراَ هو ذاته الذي ذهب وأعاد مرتضى منصور لنادي الزمالك يا عواطف، بعدما أفسد في النادي هو وشركاه ليصل حال الزمالك لما نحن فيه. هذا الجيل الذي يبحث عن وجوده في إفساد ما نحارب عليه، هو ذاته الذي يُعجب بالأغاني الوطنية عندما تُشخص في رموز تريد السطو عليهم لا في الحديث عنهم وعن حقوقهم. بهذا السوء الواضح تسير الأمور لأسوأ، الجميع فاقد للسيطرة على مجريات الأمور السيئة يا عزيزتي.
ذات مرة غفل إيهاب هذا الشاب الثلاثيني صاحب الصوت المزعج، وخرج من السينما في ميعاد كمين المحاضر المنصوب أمام بوابة السينما. ركب إيهاب “البوكس” مع الأطفال المقبوض عليهم، ولم يعد. حاول لبيب طمأنتي على إيهاب وأخبرني بأنه كان يدفع ثلاثة جنيهات كل صباح ليمر للسينما ليظل بها من العاشرة صباحا حتى منتصف الليل، لينام على كراسيها في كل الحفلات، ليخرج ليلاً ليتسكع في الشوارع والطرقات حتى يأتي ميعاد حفلة الصباح. إيهاب لم يكن له بيت أو أصدقاء، وكان يستعيض بساعات نومه في السينما نهاراً عن مأوى غير موجود ليلاً. لبيب كان مطمئناً فالآن لا يستطيع أحد إيذائه ليلاً كما كان معرضاً لهذا في تسكعه ليلاً في الشوارع. بعدها بفترة علمنا بوفاة إيهاب، ربما تمكن أحدهم من إيذائه صباحا وليلاً، قبل أن يخرج عم لبيب على المعاش.
وأخيرا، أغلقت السينما منذ أربعة سنوات يا عواطف، وشوّه وجه شمس البارودي المرسوم على لوحاتها، ولم يبقى غير كمين الداخلية، أمامها. كل أسبوع هم وزملاءهم ليخوضوا المعركة بعد صلاة الجمعة ضد متظاهرين مصنفين من الإعلام بـ”الإخوان” أمام السينما، لمحاربة الإرهاب، وربما لتقفيل أكبر عدد من المحاضر يا عواطف.