“نظرات وقحة” تتعرض لها أمينة بشكل يومي من زميل لها في العمل، و”عبارات ملغّزة” تسبب لها حالة من التوتر والقلق الدائمين، وتجعلها تسعى جاهدة للانتقال من القسم الذي تعمل فيه.
ساعات العمل التي تمضيها امينة -وهي موظفة إدارية في جامعة طبرق (أقصى الشرق الليبي) أصبحت تمضي ثقيلة، وتقول “أقضي وقتي في المكتب في التفكير في اختلاق طريقة لتجنب نظراته”.
وفيما باغتها السؤال عن سبب عدم تقديم شكوى لإدارة الجامعة تساءلت: “هل حقاً من يتحرش بي أستطيع أن أقاضيه؟”، قبل أن تستدرك “ولكن كيف أستطيع أن أثبت أن ذلك الرجل تحرش بي؟”.
الحلوى والذباب
أمينة هي واحدة من شريحة كاملة من النساء العاملات اللاتي يتعرضن للتحرش الجنسي، والذي يفوق أحياناً حدود اللفظ إلى أفعال أعنف، دون أن يتمكنَّ من اللجوء إلى أي جهات تأخذ حقهن من الجناة.
وتؤكد أمينة أن المشكلة أعمق من حدود الفعل ورد الفعل، إنما هي “ثقافة متأصلة تتعامل مع المرأة على أنها مباحة لمجرد كونها تخرج للعمل وتختلط بالرجال”، ولا أدل على ذلك بالنسبة لها من إعلان عن التحرش الجنسي يعرَضُ بإحدى القنوات الفضائية الليبية يُشبّه المرأة بقطعة حلوى يجب أن تظل مغطاة حتى لا يقع عليها الذباب.
هذه الفكرة الرائجة التي تلخص الحل في أن ترتدي المرأة الحجاب أو النقاب لتحمي نفسها من التحرش، تناقض الوقائع اليومية بحسب أمينة التي تحرص على ارتداء الحجاب، والتي تؤكد أن “فعل التحرش مشكلة تطال كل النساء، لا فرق بين عاملة أو ربة منزل، متزوجة أو عزباء، محجبة أو سافرة”.
الخوف من الفضائح
قصص الإساءة والتحرش الجنسي في ليبيا كثيرة، والخوف من الفضائح يجعل الصمت أكثر ما تلجأ إليه المرأة في تعاملها مع هذه المشكلة، خشية على سمعتها وما يمكن أن يؤثر ذلك على فرص الزواج لديها، الأمر الذي يجعل المتحرش يتمادى في مضايقتها أكثر.
إحدى هذه الحالات هي سالمة – 24 عاماً – والتي كانت تعمل ممرضة في إحدى العيادات الخاصة بطبرق، حيث تروي أنها كانت تتعرض للتحرش من قبل أحد الموظفين الإداريين بالعيادة، لدرجة أنها فكرت بترك العمل.
ثقافة الخجل والعيب كانت مسيطرة على تصرف سالمة التي تقول “لم أخبر أحداً من أسرتي، وفضلت الصمت خشية الفضيحة، وخوفاً من رد فعل أهلي لأنهم لن يتفهموا الأمر”.
فصلوها من العمل
إلا أن المسألة تفاقمت بعد فترة، عندما حاول المتحرش تجاوز الاعتداء اللفظي عليها إلى اعتداء جسدي، وذلك حين وجدها وحيدة في غرفة الممرضات ورفضت الحديث معه وحاولت طرده، وبعد هجومه عليها ارتفع صوتها لينتبه أمن العيادة.
“تم تحويلنا نحن الاثنين للتحقيق رغم محاولاتي اليائسة شرح الموقف وإثبات أنني مجني عليها”، تقول سالمة.
ورغم محاولاتها المستميتة لتوضيح الموقف، انتهى التحقيق بفصل سالمة من العمل “حفاظاً على سُمعة العيادة، وخوفاً من المشاكل التي ستنتج من انتشار مثل هذا الخبر، رغم معرفتهم أنني لست مذنبة باعتراف الجاني نفسه الذي لم تُتخذ أي عقوبة أو إجراء رادع في حقه”.
التحرش في القانون
يصف المحامي أحمد العدلي التحرش الجنسي وفقاً للنص القانوني بأنه فعل إجرامي يتحقق بإتيان الجاني الفعل الفاضح بالإشارة أو لفظياً أو مادياً، ولا أهمية إذا كان السلوك الذي يهدف إلى استثارة الغريزة الجنسية سلوكاً واضحاً أو ضمنياً وغير معلن كالإيماء والإشارة. “وبالتالي يتحقق التحرش الجنسي بالدعوة الضمنية أو الصريحة لأي من مقدمات جريمة المُواقعة أو جريمة هتك العرض” يؤكد العدلي.
ويعاقب المتحرّش بالحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على ستة أشهر بحسب المادة 420 من قانون العقوبات الليبي، سواء كان تحرّشه “بالقول أو بالفعل أو بالإشارة، في طريق عام أو مكان مطروق”.
فيما تنص المادة 421 على أنه “يعاقب بالحبس كل من أخل بالحياء بتوزيع رسائل أو صور أو أشياء أخرى فاضحة أو بعرضها على الجمهور أو طرحها للبيع مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تجاوز خمسين جنيهاً”.
ليس جرماَ
هاتان المادتان اللتان تتطرقان لجريمة التحرش الجنسي في القانون ليستا برادع للمتحرشين، يعلّق المحامي أحمد العدلي، “إذ يتطلب تكامل الجريمة أن يتم التحرّش في محل عام أو مفتوح أو معروض للجمهور”.
وعليه فإن التحرش الجنسي الذي يقع داخل الأماكن المغلقة في صورة فعل فاضح كالذي تعرضت له أمينة وسالمة لا يُسأل عنه مرتكبه وفق أحكام المادتين المذكورتين “لأن ركن علانية الجريمة غير متوفر”.
ويؤكد العدلي أن ما تتعرض له المرأة من تحرش فى مواقع العمل “يحتاج إلى تدخل تشريعي يجرم هذا السلوك صراحةً، لردع من تسول له نفسه الإساءة للمرأة أثناء قيامها بدورها المجتمعي”.
الضحية مدانة
لا يزال المجتمع الليبي في أغلب الأوساط سواء الحضرية أو الريفية يحمل المرأة مسؤولية تعرضها للتحرش الجنسي، مع أن المرأة في ليبيا غالباً ترتدي الحجاب والملابس الفضفاضة عند خروجها للتسوق أو العمل، إلا أن تلك الملابس لا تقيها ألسنة الرجال.
وتبقى مشكلة التحرش في المواصلات والأماكن العامة حيث يمكن للمرأة أن تغادر المكان الذي تتواجد فيه سهلة الحل، وفقا للمحامي، “أما عند تعرضها لهذه المشكلة في مكان عملها فإنه يصعب عليها مواجهة الموقف بدون وجود قانون يحميها، ومجتمع يقدر الأنثى العاملة ويحترمها”.
الجنس عيب
غياب الثقافة الجنسية للفتاة والشاب على حد سواء أدى بحسب أخصائية صحة المجتمع الدكتورة نجوى الفيتوري إلى وجود ظاهرة التحرش الجنسي.
لكن هذه الظاهرة تبقى من ضمن المسكوت عنه، تضيف الفيتوري، “كون من يرفضن التحرش ويلجأن إلى الإفصاح عنه هن نسبة ضئيلة جداً من مجموع من يتعرضن له”.
وتقول الأخصائية الاجتماعية إن فئة كبيرة من المجتمع تعتقد بأن التحرش سببه إساءة استخدام المرأة للحرية التي منحت لها، وأن لبس المرأة المثير هو السبب في تفشي هذه الظاهرة، وهي برأيها نظرة غير موضوعية وظالمة للنساء، “فلا يوجد ما يبرر وقوع التحرش الجنسي حتى لو تواجدت تلك السلوكيات لدى بعض الفتيات”.
وتشير الفيتوري إلى أن النساء هنّ من يدفعن الثمن، سواءً اعترف المتحرش بجرمه أم لم يعترف، الأمر الذي تؤكده أيضا الممرضة سالمة.
فبعد مضي خمسة أشهر على الحادثة التي تعرضت لها سالمة، ما زالت إلى الآن قابعة في منزلها، ترفض الالتحاق بأي عمل آخر، حيث عُرض عليها العمل بأحد المحال التجارية لكنها رفضت، وتقول أنها لم تعد ترغب بالعمل.