“مكره أخاك لا بطل”، هكذا يعلق طارق السلامي على ترك مهنة الأجداد: الزراعة، لطالما اشتُهرت قريته سيدي بوبكر، التابعة لولاية قفصة في الجنوب الغربي التونسي، باسم “الحزام الأخضر”، باعتبارها كانت من أخصب أراضي المنطقة. لم يكن طارق الوحيد الذي هجر الزراعة ليفتح متجراً صغيراً في منطقة كان أغلب سكانها يقتاتون من الزراعة.
“مكره أخاك لا بطل”، هكذا يعلق طارق السلامي على ترك مهنة الأجداد: الزراعة، لطالما اشتُهرت قريته سيدي بوبكر، التابعة لولاية قفصة في الجنوب الغربي التونسي، باسم “الحزام الأخضر”، باعتبارها كانت من أخصب أراضي المنطقة. لم يكن طارق الوحيد الذي هجر الزراعة ليفتح متجراً صغيراً في منطقة كان أغلب سكانها يقتاتون من الزراعة.
أما الآن فالمنطقة تعاني من شح في الموارد المائية. والسبب من وجهة نظر إدريس مبروكي، وهو مهندس زراعي، هو ندرة الأمطار في السنوات الاخيرة؛ وحتى وإن وجدت، فإن إقدام السلطات الجزائرية على إنشاء بحيرة اصطناعية بمنطقة جبل الصفصاف لتخزين مياه واد بيّاش، المزوّد الرئيس لطبقة المياه الجوفية بالمنطقة، يجعل من احتباس الأمطار مسألة ثانوية، في ظل غياب سياسة واضحة لاقتسام المياه بين تونس والجزائر.
حين تجف الآبار
“لم يكن الفلاح في سيدي بوبكر يجد صعوبة في استغلال أرضه قبل أن تنقلب حياة الأهالي رأساً على عقب بسبب نقص كميات مياه الرّي، بعد أن شحّت الآبار السطحية ولم يعد بالإمكان استغلالها”، يعلق طارق في حسرة.
حسرة يتقاسمها معه عم علي أحد مزارعي سيدي بوبكر، “كنّا نزرع الزعفران قبل أن تجفّ الآبار ويقطع عنّا بنو عمومتنا ماء بئر الحصان” هكذا يقول.
و”بئر الحصان” هو أحد الآبار الرئيسة التي كانت تزوّد منطقة سيدي بوبكر بمياه الرّي والتي تنبع من منطقة “أم القصاب” المجاورة. وقد كان نهر “الوادي الكبير” كما يعرفه الأهالي أو “وادي بيّاش” كما يعرفه سكان ولاية قفصة، هو المصدر الأساسي لري الأشجار المثمرة والخضار. وينبع هذا النهر من مدينة تبسة بالجزائر.
ويرى السبتي غوايدية، أحد فلاحي أم القصاب، أن طبقة المياه الجوفية التونسية تضرّرت بسبب كثرة السدود التي أنجزتها الجزائر والتي أدت إلى توقّف تدفق نهر “الوادي الكبير”. ويضيف السبتي أن “قطع ماء بئر الحصان كان لابدّ منه بعد أن جفّت كل الآبار السطحية بالمنطقة وتجاهلت السلطات التونسية مطالب فلاحي المنطقة وتغاضت عن حفر آبار عميقة على غرار ما فعلته الجزائر”.
من الجانب القانوني يؤكّد الاستاذ فيصل اتليجاني ان المرجع الرئيسي لمثل هذه القضايا هو مجلّة المياه والاتفاقيات الدولية و الاتفاقيات الثنائية.
مطلوب اتفاقية للاستغلال
ومن الجانب القانوني، يقول المحامي فيصل التليجاني إنه لم يجد أية اتفاقية تقنن استغلال مياه الطبقات الجوفية بين تونس والجزائر. لكن توجد هيئة مشتركة جزائرية تونسية ليبية تعنى برسم استراتيجية لاقتسام المياه الجوفية بين البلدان الثلاثة.
ففي عام 2002 أُرسلت لجنة فنّية خاصة بالمياه والبيئة بين الجزائر وتونس، بحيث تم تحديد آليّة مشتركة بين تونس والجزائر وليبيا، وكانت مهمّتها الأساسية إدارة قاعدة البيانات لشبكة الطبقات الجوفية. لكن كل ذلك لم يحل المشكلة التي بدأت تتفاقم سنة بعد أخرى.
مدير فرع بنك زراعي بقفصة، رفض الكشف عن اسمه، صرّح لموقع”مراسلون” أنّه يرجّح فرضية الاستغلال المفرط للدولة الجزائرية لمخزون طبقة المياه الجوفية، “ويكفي أن نلقي نظرة على الخريطة، لتأكيد هذه الفرضية”.
وفي الوقت ذاته يرى المدير أن الدولة التونسية لم تعتنِ كثيراً بهذا الملف، بدليل إهمالها لمنطقة خصبة تمكّنها من تحقيق النسبة الأكبر من الاحتياجات اليومية من الخضار والغلال للمنطقة وأحوازها.
أما سكان المنطقة فيذهب بعضهم إلى ما هو أبعد من ذلك. يقول أحمد، وهو أحد شباب أم القصاب العاطلين عن العمل، “نحن لا نتحرّش بأشقّائنا الجزائريين ونحن واعون أن هذه الحدود وهمية”. كما يطالب أحمد السلطات التونسية أن تفتح هذا الملف بكل جدّية، فإن “ثبت أن مياهنا الجوفيّة سرقت بالفعل، فعلى المسؤولين التحرك العاجل من أجل الحد من هذا النزيف، وسواء سرقت مياهنا أو جفّت طبقة المياه الجوفية فعلى الدولة معالجة الأمر لضمان حياتنا وحياة الأجيال القادمة”.
من ناحية أخرى يرى عم محمد، أحد سكان المنطقة، ضرورة تدخل الدولة، ذلك أن “مورد رزقنا الوحيد ذبلت أوراقه”، في إشارة إلى أشجار الزيتون. ويضيف بكل حسرة “في الوقت الذي يستعد فيه فلاحو المناطق الأخرى لجني محصول الزيتون نستعدّ نحن لقطع الأشجار وتحويلها إلى فحم”. مشيراً إلى أن مطالبهم لم تجد آذاناً صاغية لدى الحكومة.
فرضية تفتقر إلى الواقعية
وفي ذات السياق يرى مهدي الدالي، مختص في الجغرافيا، أن “الرأي القائل بأن طبقة المياه الجوفية الصحراوية تبقى رصيداً للأجيال القادمة هو رأي يفتقر إلى الواقعية، إذ إن هذه الطبقة مشتركة بين الجزائر وتونس وليبيا، وأن نحجم عن استغلالها فهذا لا يعني أن دول الجوار ستفعل نفس الشيء.”
سيدي بوبكر التونسية التي كانت تسمى بالحزام الأخضر، تنتظر يوماً تسترد فيه إخضرارها، وذلك من خلال استرجاع حصتها من الماء، إسوة بشقيقتها سيدي بوبكر الجزائرية، المدينة المقابلة التي تتقاسم معها الاسم والتربة والهواء. هكذا قال طارق وهو يودعنا.