لم يكن العم محمد شوشان يدرك أبدا أن حياته ستنقلب رأسا على عقب ويصبح مهددا بالعيش دون مأوى هو وزوجته وأولاده، فالحدث كان جللا رغم أنه خرج منه سالما دون خدش واحد أو ضرر، ففي ليلة مشؤومة لن ينساها فيما تبقى له من عمر، استفاق هو وأفراد أسرته على وقع دوي هائل زلزل المكان وهزّ الأرض وصم أذنيه.

أعتقد في الوهلة الأولى أنها رجة أرضية خفيفة ضربت المدينة في ليلة ماطرة، لكن قوة الضربة القادمة من الخلف جعلته يهرول مذعورا من فراشه كي يطمئن على أولاده، فاتكأ بسرعة على عكازه بحكم إعاقته وراح يستطلع الأمر، فهاله ما رأى وما كان يسمع، لقد سقطت البناية التي يقطن في طابقها السفلي على ساكني الطابقين الأول والثاني يوم الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري متسببة في سقوط 6 ضحايا.

ملأ الغبار المكان، وعم الصراخ كل المكان، واهتزت مدينة سوسة الساحلية (وسط البلاد) على وقع سقوط بناية سكنية في ليلة هطل خلالها المطر بغزارة وكأنها تستعد لغسل ضحايا كانوا نائمين هادئي البال، لكن قدر هذه البناية المهتزة الأركان والآيلة للسقوط قلب حياتهم رأسا على عقب، فحّول نوم بعض السكان الهادئ إلى نوم أبدي.

مشهد مأساوي

يصف العم محمد المشهد المأساوي الذي عاشه بكل تفاصليه وفصوله بأنه أشبه بالجحيم، فعدد من السكان وبعضهم صغار السن كانوا تحت أنقاض القضبان الحديدية والحجارة المتدحرجة.

كان هناك غبار يتصاعد من الركام المتناثر الذي راح يتنافس مع زخات المطر المتهاطل. وفي خضم هذا التداخل بين الغبار والأمطار والأوحال كانت أصوات المنكوبين المستغيثين من الكارثة تتعالى، بحسب تأكيدات العم محمد.

حاول عم محمد في تلك الدقائق القليلة التي تلت السقوط أن يبحث رغم حركته البطيئة عن ناجين من تحت الأنقاض والركام لكن خوفه من سقوط بعض الأعمدة الحديدية التي بقيت تترنح في بقايا البناية وكذلك إعاقته حالا دون أن يتمكن من الولوج إلى وسط الركام.

النجاة بأعجوبة

بعد بضعة دقائق توافد عدد هائل من المتساكنين الذين يقطنون بالقرب من البناية المنكوبة، فالدوي الهائل للسقوط عجل بقدومهم قبل أن تأتي سيارات الإسعاف لتبحث عن ناجين محتملين من هذه الكارثة التي أسفرت عن وقوع ستة ضحايا وإصابة أربعة آخرين بجروح متفاوتة الخطورة.

كان من بين الناجين فتاة تبلغ من العمر 17 سنة، هذه الفتاة فقدت أبويها في لمح بصر، ففي غمرة نوم عميق دكت الأرض وزعزعت كيان البناية فسقطت وسقط أغلب ساكنيها، لكن هذه الفتاة كتب لها عمر جديد، إذ وجدت قضيبا حديديا تمسكت به وظلت معلقة تنادي وتصرخ حتى تم إنقاذها بمجرد وصول أعوان الإسعاف.

يقول أخوها منتصر إنه تلقى اتصالا هاتفيا في حدود الساعة الثانية صباحا بخصوص حدوث هذه الفاجعة، فانطلق بسرعة البرق ليطمئن على والده وأخته وزوجة والده.

بمجرد وصوله لم يدر ما يفعل، فهول ما رأى جعله يتسمر في مكانه لبضع الوقت قبل أن يستفيق من قوة الصدمة على صوت أخته وهي تناديه من مكان معلقة فيه بين السماء والأرض.

بين الركام

أفقده هذا المشهد إحساسه بالوجود فبين البحث عن والده بين الركام والبحث عن حل لإنقاذ أخته من السقوط من الطابق الثاني لم يدر منتصر كيف يتصرف قبل أن توقظه أصوات المسعفين من صدمته ليستفيق على وقع خبر وفاة والده.

لقد خسر للتو أقرب الناس إليه بعد أن فقد منذ سنوات أمه، لكن مقابل ذلك قال القدر كلمته لتنجو أخته وتصبح اليوم في كفالته وهو الذي يكبرها كثيرا في السن.

حاول منتصر البحث في أسباب هذه الكارثة، فلم يجد سوى إجابات تفيد بأن المبنى كان متداعيا للسقوط بطبعه، وقد تم إعلام ساكنيه منذ فترة بضرورة إخلائه كي يقع هدمه، لكن ضيق الحال وقلة ذات اليد وارتفاع أسعار المنازل والشقق المعدة للإيجار دفع أغلب العائلات التي تقطن بالبناية المتضررة للبقاء، إلى أن حصل المكروه.

بيد أن منتصر شدد هو وأغلب العارفين بوضعية هذا العقار المتهالك أن أحد الخواص اقتنى أرضا محاذية للمبنى وعزم على تشييد مجمع سكني حديث، وراح يحفر هذه الأرض في غفلة من أعين الرقيب ليضرب هذا الحفر أسس المبنى المتداعي ويصبح جاهزا تماما للسقوط.

وبمجرد سقوط أمطار قوية بقيت تهطل لمدة ثلاثة ليال مسترسلة كان المصير المحتوم قد كتب فصول نهاية هذا المبنى الذي ترك بعض العائلات الفقيرة مصدومة ومكلومة تفكر في إيجاد مكان آمن يقيها فواجع أخرى.

لقد وجدت أخت منتصر بعد انهيار ذلك السقف الذي كان يغطيها مع والديها من يأويها بعد أن أصبحت يتيمة فبيت أخيها استقبلها مباشرة بعد أن غادرت المستشفى، لكن ثمة من خسر كل شيء وبقي بلا مأوى، إذ قضى بعض ساكني هذا المبنى ليلتين في أحد نزل مدينة سوسة قبل أن يستأجر مسكنا آخر، والبعض الآخر أقام عند قريب إلى حين إيجاد حل دائم.

مخاطر مستمرة

لكن عم محمد العاطل هو وأولاده الثلاثة لازم بيته الواقع أسفل “العمارة” المنهارة، فهو غير قادر على دفع إيجار بيت جديد خاصة وأن معلوم “كراء” بيت آخر سيكلفه ضعف ما كان يدفعه في بيته الآيل للسقوط.

لقد أعلمه صاحب الشقة الأصلي بضرورة المغادرة لأن قرار هدم ما تبقى من البناية سيقع تنفيذه قريبا، لكنه لم يقدر على الخروج من بيته المتهالك حتى يجد من يساعده على توفير المسكن اللائق.

عرض مشكله العويص على محافظ الجهة، لكن المحافظ أعلمه أنه لا يقدر على منحه سكنا واقترح عليه بالمقابل مده بخلاص معلوم إيجار سكن جديد لمدة شهرين لكن عم محمد رفض المقترح.

يأمل عم محمد الذي عاش الفاجعة بكل تفاصيلها وفضل بعد ذلك البقاء في منزله الذي قد يسقط في أية لحظة أن يجد عملا لائقا لأحد أبنائه عله يساعده مستقبلا على إيجاد بيت بسيط ومتواضع يأوي العائلة وينسيه ولو نسبيا ذكرى تلك الحادثة.