“قابلت زوجتي السابقة / الفلبينية في ليبيا ، حيث كان عملنا هناك بنفس المستشفى ، لكن القصة الحقيقية بدأت قبل ذلك بكثير”.. بنفس القدر من التشويق دار حديثي مع الدكتور محمود توفيق استشاري النساء والتوليد بالسويس في شرفة عيادته المطلة على شارع أحمد عرابي ، وهو واحد من أكبر وأشهر الشوارع التجارية بالمدينة، والدكتور محمود فضلاً عن كونه طبيباً ماهرا،ً سمعته كطبيب معروفة، فهو رجل ذو ذوق عالٍ وثقافة واضحة تدركها من الدقائق الأولى لمحادثته ، أدركت جوانب من أسبابها بعد الحديث الممتع معه.

البداية مختلفة
ينحدر توفيق –الأب- من أصل جزائري، جده لأبيه جاء إلى مصر من الجزائر، وتزوج مصرية من المنصورة، ظهر شغف والده بالموسيقى من الصغر وتعّلم – في فترة قصيرة – العزف على عدة آلات موسيقية، وعندما جاء وقت تجنيده انتظم بالفرقة الموسيقية العسكرية، وبعد خروجه من الجيش عمل مدرساً للموسيقى بمحافظة السويس، وقتها – قبل 1952- كانت السويس تمتلأ بالأجانب ونواديهم / كلوبات جمع “كلوب” كما كان يطلق عليها، كان للأستاذ توفيق العديد من الأصدقاء الأجانب، أقربهم صديق يوناني عازف بيانو، وقع في غرام شقيقته “لونا” التي كانت تغني بسبع لغات، ثم جاء يوليو 1952، وقامت الجمهورية، ورحل الأجانب، ورحلت “لونا” عشقه الحقيقي والوحيد.

تزوج الأب وعمل بشركة بترول لأن أهل البنت المصرية التي ساقه القدر للزواج منها، لم تعجبهم مهنة مدرس الموسيقى، كان يأتي للبيت أسبوعاً ويسافر ثلاثة، وعندما كان الدكتور محمود توفيق طفلاً كان يراه عصبيا وراغباً في التحكم، وكان أسبوع قدومه كالجحيم عليه وعلى إخوته وأمه، لكنه حين صار شابا ونشأت صداقة بينه وبين أبيه حكى له الأب عن كل شيء، عن نكد الست المصرية، حسب تعبيره، واختلاقها للمشكلات، وحين صار الشاب طبيباً للنساء والتوليد وقبل سفره للعمل في ليبيا، قابل العديد من النماذج التي رسخت بداخله فكرة أبيه، وكما يتذكر الأن، قرر دكتور محمود دون أن يعلن ذلك حتى لنفسه، أنه لن يتزوج من مصرية.

لقاء على أرض محايدة
في بداية التسعينيات ، ظروف العمل المشترك الشاق – في بدايته – في ليبيا ،  جمعت بين قلبي الطبيب المصري والممرضة الفلبينية ، أشهر طويلة بلا راتب، ماء مالح ينزل من صنابير المياه، لا شاي لا سكر يُباع، فقط يُصرف لليبيين على بطاقات تموينهم، فترات العمل تمتد لمدة اثني عشر ساعة خلقت مساحات من الود والحكي بالانجليزية لمحاولة تسهيل الأمور بين المصري والفلبينيات، ليعرف ويقارن، لايجد فيهن إلا الذكاء والنظافة والتهذيب ، الالتزام في العمل، وعدم وجود مساحات للضغائن.

احداهن كانت بالنسبة له الأكثر هدوئاً وأدباً ورجاحة في العقل، عرف منها الطبيب المصري أن لها ثلاثة عشر أخاً وأختا،ً وأن والدها سائق بسيط لحافلة محلية الصنع ، وأنها الابنة الكبرى وقد سبقته بعامين للعمل في ليبيا وترسل كل قرش تكسبه من عملها للإنفاق على إخوتها، كما تعمل كجليسة أطفال في أي وقت يتبقى بعد العمل في المستشفى حتى تستطيع أن تعيش.

***

في السنوات الأولى للزواج الذي استمر أكثر من عشرين عاماً، زار الدكتور محمود الفلبين مرتين، ويحكي عنها بانبهار شديد، عن السلوك الجمعي الشعبي الفلبيني تحديداً، ويقارنه بما وصل إليه المصريين من إنحدار، يحكي عن الشعب الفلبيني الفقير وحياته الصعبة على أكثر من سبعة ألاف جزيرة، لا يوجد مياه نقية للشرب، الجميع يرتدي الكمامات  طوال الوقت بسبب التلوث البيئي، ومع ذلك لا مشاجرات ولا إهانات، الجو شديد الحرارة ولا يفقد أحد أعصابه، يستيقظ  في الثامنة صباحاً ليكتشف أن كل من في البيت قد صحا في الخامسة، في التاسعة يجدهم عائدين من السوق بعد الذهاب إلى الكنيسة، الأطفال فرحين لاهين، والكبار مبتسمين يتناقشون، والبيت الكبير يستقبل الجميع بعبارة في إطار أسود كبير في منتصف الصالة:
IN GOD WE TRUST”” .
إنسانية الشعب الفقير
في “كنتاكي ” الفلبين تحديداً والعديد من مطاعمها الأخرى، لاحظ الطبيب المصري سلوكاً غريباً، أن المطاعم لا تتلقى مبالغ إضافية مقابل طعام إضافي يطلبه الزبائن، فقراء يطعمون فقراء بمبدأ الإنسانية والشبع، على عكس ما قد تراه في البوفيه المفتوح في مؤتمر طبي أو قرية سياحية في مصر، من تزاحم على الطعام، ورمي أغلبه بالنهاية، قادرين يطعمون قادرين على خلفية من الهمجية واللأخلاقية والفوضى كما يصف دكتور محمود الأمر.

رأى الطبيب المصرى من شعب الفلبين بشكل عام ومن زوجته بشكل خاص كل الإحترام، حب الناس، حب النفس، حب الضحك، حب الله، وحب الحياة.

أصبح أربعة من إخوة زوجته أطباء، بعدما كانت تأكل باليوم بأكمله كوب أرز وبيضة مسلوقة كي تنفق عليهم، واحداً منهم صار مليونيراً ومتزوجاً من مليونيرة صينية، طبيبة كبيرة بنت أطباء كبار، تحمل الجنسية الأمريكية ومنحتها لأولادها، وبالرغم من ذلك لم تتغير، ظل حرصها على عدم الإهدار ثابتاً، عندما كانت تطلب من زوجها / الطبيب المصري والذي أصبح ميسور الحال، رغيفي خبز ويحضر ثلاثة تلومه، وتحمّص الثالث في النار حتى يمكن حفظه وإعادة استخدامه.

كل الأمنيات للثمرة
عن الأبناء، فقد أثمر هذا الزواج عن طبيب وطبيبة أسنان، يعيشان بين القاهرة والفلبين مع والدتهم، ويقوم والدهم بزيارتهم بانتظام، بعدما طلبت الأم الإنفصال من سنوات خمس، وتم بهدوء، لا يرغب الدكتور محمود في أن يتزوج ابنه من مصرية، ويرتاح لتواجدهم بالقاهرة حيث يمكن تقبّل اختلافهم – الذي يشجّعه – بشكل أكبر من الأقاليم، كما يجد سعادة كبيرة في عثور أبناءه على مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، للتعارف بين حاملي الجنسيات المصر/فلبينية، الأب مصري والأم فلبينية أو العكس، لامتلاؤها بالأطباء والمهندسين وحملة الدكتوراة ، ممن وجدوا في من يشبهونهم تعزية مثلما وجدها طبيب مصري شاب مغترب، وممرض فلبينية، في مستشفى كبير، بالقرب من العاصمة الليبية.