يوم الثامن عشر من شباط/ فبراير 2014 كنت ملزما بالسفر إلى العاصمة انطلاقا من محافظة قفصة (400 كلم جنوب غرب تونس)، للمشاركة في اجتماع فريق “مراسلون”.

الطريق التي سأسلكها شهدت أكثر العمليات الإرهابية دموية، وبالتحديد في مدينة بنعون، راح ضحيتها رئيس فرقة التوقّي من الإرهاب وخمسة من زملائه في 23 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي.

نظرا لبعد المسافة الفاصلة بين قفصة والعاصمة، خرجت باكرا في حدود الخامسة صباحا رفقة صديقي “وسام”.

يوم الثامن عشر من شباط/ فبراير 2014 كنت ملزما بالسفر إلى العاصمة انطلاقا من محافظة قفصة (400 كلم جنوب غرب تونس)، للمشاركة في اجتماع فريق “مراسلون”.

الطريق التي سأسلكها شهدت أكثر العمليات الإرهابية دموية، وبالتحديد في مدينة بنعون، راح ضحيتها رئيس فرقة التوقّي من الإرهاب وخمسة من زملائه في 23 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي.

نظرا لبعد المسافة الفاصلة بين قفصة والعاصمة، خرجت باكرا في حدود الخامسة صباحا رفقة صديقي “وسام”.

ما لفت انتباهنا في ساعات الفجر الأولى، وجود العشرات من الأمنيين من مختلف الوحدات، وقد انتشروا على قارعة الطريق فرادى وجماعات. وبوصولنا للمفترق الدائري أمام مطار قفصة الدولي شاهدنا عددا من أعوان الأمن والعسكر.  

طلبت من مرافقي أن يضع حزام الأمان حتى نتجنّب الغرامة المالية، وكنت اعتقد أن الموجودين بالمفترق هم عناصر إحدى الدوريات الأمنية، خاصة وأن أنظارهم كانت متجهة إلى السيارات القادمة من وسط محافظة قفصة والمتجهة إلى صفاقس أو الطريق الوطنية المؤدية إلى العاصمة.

مرافقي قال مازحا: “لا تهتم بوضع الحزام.. هؤلاء ليسوا أعوان دورية أمنية، هم أمنيون يبحثون عمّن يقلهم لوجهتهم، إلى مقرات عملهم أو سكناهم”. وأضاف أن أعوان الأمن، من مختلف الرتب، من الأمن والحرس وحتى من حرس الحدود والوحدات العسكرية، ينتظرون كل يوم على جوانب الطرقات، مند الصباح الباكر، للظفر بمقعد في سيارة خاصة.

رأفة بحالهم، وفي محاولة منّي لفهم بعض الأحداث الأمنية توقفت على حافة الطريق، فهرول ناحيّة السيارة أربعة من عناصر الجيش. وبعد الحديث حول وجهتهم ركب اثنان منهم في المقعد الخلفي.

اقترب مني مرافقي وسام وهمس في أذني مبتسما: “وماذا لو كنا إرهابيين؟ ماذا لو قمنا برشّ هؤلاء الأعوان بالغاز المشل  للحركة، ماذا سيكون مصيرهم؟”.

وصل كمال القضقاضي (أحد المشتبه بهم في قتل المعارض التونسي شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013) إلى العاصمة فارا من جبال الشعانبي على الحدود التونسية الجزائرية بهذه الطريقة. وكميات الأسلحة القادمة من الحدود الليبية إلى العاصمة عبرت بنفس الأسلوب. هذا ما تبادر إلى ذهني بعد أن صعد معنا العسكريين.

قال أحد الجنود: “نحن نعمل بثكنة سبيطلة (محافظة القصرين بالوسط) وضغط العمل يدفعنا أن نستغل كل الأوقات المتاحة لنا لقضاء ليلة مع الأسرة”.

وفي الوقت الذي كان أحد العسكريين يحدّثنا عن “فاجعة أولاد منّاع” (عملية إرهابية حدثت يوم 16 شباط/فبراير الماضي بالشمال الغربي لتونس، راح ضحيتها أربعة أمنيين وجرح أربعة آخرين) غط زميله في النوم مطمئنا، وكنّا قد وصلنا الى مدينة بنعون إحدى معاقل السلفيين.

بعد قرابة الساعة وصلنا إلى مفترق سبيطلة على بعد حوالي 100كم من محافظة قفصة. نزل العسكريان، ليصعد بدلا عنهما عونا أمن كانت وجهتهما محافظة القيروان (وسط).

قصير القامة، مغبرّ الشّعر، وبصوت أجش بادرنا أحد الأمنيين: “صباح الخير… وشكرا” وفي الوقت الذي انشغلت فيه أنا بقيادة السيارة، كان رفيقي يتبادل الحديث مع الراكبين الجديدين.

“الخبزة مرة يا صاحبي” هكذا علّق علي، وهو أمنيّ برتبة عريف أول في سلك الحرس الوطني، وهو بذلك يجيب مرافقي، بعد أن سأله عن طريقة تنقله اليومية من مقر سكناه بالقصرين إلى منطقة الشبيكة بمحافظة القيروان.

ويضيف العريف أول عليّ “قد يكون متاحا لزملائنا في العاصمة أو المدن الساحلية إمكانية التنقل عبر السيارات الإدارية التابعة لسلك الأمن لكن نحن العاملون بالمناطق الداخلية ليس لنا خيارات كثيرة، إمّا أن نتنقل عبر “الأوتوستوب” أو ننتظر حافلات النقل العمومي التي لا يلائم توقيت رحلاتها توقيت ذهابنا للعمل والعودة منه”.

وقد علمت من العريف أول عليّ، أن العديد من أصحاب السيارات المخالفة وجدوا ضالتهم في هؤلاء الأمنيين  للهروب من المخالفات المرورية، فيكفي أن يكون مرافقك  بزي أمني حتى يسمح لك بمواصلة المسيرة دون أن تتثبت منك الدوريات الأمنية. هي مصلحة متبادلة إذن، بين أعوان الأمن الذين تشتكي نقاباتهم من عدم توفير وسائل النقل الضرورية، وبين الكثير من أصحاب السيارات الذين يتجنبون نقاط التفتيش.

في حدود الرابعة من مساء اليوم نفسه انطلقت رحلة العودة لمحافظة قفصة. ومع بزوغ الشمس، كان عدد الأمنيين والعسكريين الذين ينتظرون “الأوتوستوب” يتناقص حتى لحظات المغيب.

وبنفس طريقة الإياب تكرر نفس سيناريو الذهاب، أمنيون وعسكريون ينتشرون في المفترقات. وفضلاُ عن مرافقي وسام  كان معنا في طريق العودة زميل صحفي عائد إلى سيدي بوزيد.  

حدثت زميلي عما كان لنا مع الأمنيين، في الذهاب وكيف أن الدوريات الأمنية لم توقفنا منذ انطلاقنا من قفصة، فتساءل حول كيفية حدوث ذلك ونحن نعيش على وقع عمليات إرهابية.

عند كلّ مفترق، كنّا ننتظر أن توقفنا إحدى الدوريات الأمنية للتثبت من هوياتنا ولكن  ذلك لم يحصل، فأعوان الدوريات منشغلون بالحديث داخل السيارة الرابضة بالمفترق واتقاء برد الشتاء.

غيّرنا طريق العودة لإيصال زميلنا إلى مدينة الرقاب بمحافظة سيدي بوزيد، وعند مفترق سيدي عمر بوحجلة،  استشاط زميلي غضبا بعد أن أدار أعوان الدورية ظهورهم قبل وصولنا بأمتار قليلة، فمررنا وكأنهم لم ينتبهوا لقدوم السيارة. وقال مرافقي “ثلاثة آخرين في عداد الموتى.. لو كنّا مسلحين لأرديناهم قتلى دون مواجهة”.

وكان عون أمن قد قتل يوم 23 تشرين أول/ أكتوبر من السنة الماضية وأصيب آخران بعد أن فتحت مجموعة مسلحة  النار على دورية أمنية في منطقة منزل بورقيبة التابعة لمحافظة بنزرت.

في حدود منتصف الليل وصلنا مدينة قفصة، وعلى مدار أكثر من خمس ساعات ورغم  أن السيارة التي نستقلّها  كانت على ملاك إحدى شركات تأجير السيارات، فإنّه لم توقفنا أي دورية أمنية للتثبت. علما وأن عدة تحركات للإرهابيين تمت، حسب وزارة الداخلية بسيارات الإيجار تلك.

ثلاثة عسكريين وعونا حرس وشرطيّ كانوا مشروع ضحايا “عملية إرهابية” يوم الثامن عشر من شباط/ فبراير2014. هذا لو كنت أنا ومرافقي إرهابين.