لا تُعرف بالضبط اللحظة التي تتحول فيها الدولة بالكامل إلى مافيا. في إيطاليا (موطن المافيا الأم وشاهدة تحولها من مقاومة احتلال إلى عصابة) يمكن أن تدرك لحظة الاتساع التي تجعل المافيا في التسعينات تمسك مفاصل الدولة بما فيها الواجهات ومفاتيح الحكم.

لكن التحول في المافيا المصرية، الدولة التي يعبد (أو يكاد …) سكانها الدولة، المعجزة الكبرى، والهرم الافتراضي الذي يعيشون في حمايته وينامون في نعيم هندسته الاجتماعية، التحول هنا لا يكون من خارج الهرم، أو مثل إيطاليا عندما تحتل مجموعات المافيا جهاز الدولة بالقطعة.

لا تُعرف بالضبط اللحظة التي تتحول فيها الدولة بالكامل إلى مافيا. في إيطاليا (موطن المافيا الأم وشاهدة تحولها من مقاومة احتلال إلى عصابة) يمكن أن تدرك لحظة الاتساع التي تجعل المافيا في التسعينات تمسك مفاصل الدولة بما فيها الواجهات ومفاتيح الحكم.

لكن التحول في المافيا المصرية، الدولة التي يعبد (أو يكاد …) سكانها الدولة، المعجزة الكبرى، والهرم الافتراضي الذي يعيشون في حمايته وينامون في نعيم هندسته الاجتماعية، التحول هنا لا يكون من خارج الهرم، أو مثل إيطاليا عندما تحتل مجموعات المافيا جهاز الدولة بالقطعة.

في مصر التحول تدريجي، وعلامته الكبرى في أجهزة الأمن، حين تتحول “الدولة” بالكامل إلى إدارة مصالح مجموعة ضيقة، لا يعرف سوى أصحابها اتجاهات مصلحتها، والمسافة تتلاشى ليحكم جهاز الأمن ويتحول مع الزمن إلى جهاز إدارة المصالح، بينما تتم الحماية عبر طبقات أو مستويات من أجهزة أمنية غير رسمية، ستسمى إعلاميا عصابات، ويطلق على قادتها اسم البلطجية، وهم في الحقيقة جزء من اللعبة، يقومون بما لا يستطيع جهاز الأمن القيام به، إنهم اللاعب السري، أو الجزء البعيد عن الأضواء من جسم الأمن الذي يحمي المافيا التي هي الدولة بعد قليل جدا.

المافيا لم تكن على هامش حكم آخر الجنرالات مبارك، كانت أسلوب حكم، لمن يفرد جهازه الإداري جناحه البيروقراطي على كل متر في البلاد، لكنه في نفس الوقت عاجز عن  استكمال مشروع “الدولة الحديثة “، لا منذ أيام محمد علي، ولا بعد 1952. ظلت الدولة الحديثة أسيرة نخبتها، وأحلامهم، ومغامراتهم الفردية على أرض بدا أن هرمها/الدولة في انتظار طويل لهندسة جديدة قطعتها ثورة 1919 بإعلان المصريين قدرتهم على حكم أنفسهم.

حكم الشلة 

عاش ” مشروع الدولة” على شحنات من أيديولوجيا عبد الناصر، ومن بعدها وعود السادات بالتحول الديمقراطي على الطريقة الامريكية. وبقي “حكم الشلة” أسلوبا مميزا استخدمته دراسات غربية لوصف نظام الحكم بعد قيام الثورة. جمال عبد الناصر كان يحب فكرة أهل الثقة. وهي شلة تعلمها عبد الناصر من محمد علي، الذي اختار مجموعة من عائلات قريبة منه ليمتلكوا الأراضي والإقطاعيات وليكونوا طبقة مرتبطة به تحميه ويحميها. شلة عبد الناصر كانت من الثوار، ومعهم وبينهم عائلات كانت حاكمة قبل الثورة. عبد الناصر قرر إنهاء حكم العائلات الملكية، وقال إنها كانت «16 عائلة فقط». كان هدفه كسر احتكارها للسلطة والثروة. فكوّن عائلة من الجنرالات الثوار. العائلة سيطرت على البلد تحت قيادة الأب الكبير. شلة مؤمنة (أو تدعي الإيمان) بمبادئ الثورة إلى جانب المصلحة. الأمر تغيّر إلى حد ما مع أنور السادات، الذي اختار شلة جديدة غالبية أفرادها من عائلات المال القديمة التي عملت تحت غطاء الثورة وفي خطوطها الفرعية (عائلات عثمان وسيد مرعي وعبد الغفار… وغيرها).

السادات فتح مع عائلات المال خطوط مصاهرة منحت النفوذ للعائلات وخطوط الأمان والسيطرة للرئيس. هناك عائلات استمرت عبر العصور عبر قانون الحفاظ على القنوات السرية بين المال والسياسة. عائلات عابرة للعصور (مثل عائلة غالي الذي كان أحد نجومها يتصور أن الوزراء يتخرجون من كليات بعينها) وأخرى متعددة الانتماءات (عائلة محيي الدين تضم اشتراكيين وليبراليين حكوميين ومعارضة. وأباظة نصفهم «وفد» والنصف الآخر حكومة).
شلة مبارك مميزة، وأهم مزاياها أنها لا تلتف حول مشروع كبير، مشروعها الوحيد هو المصلحة ولا صوت يعلو فوق صوت المصلحة. وهي تقريبا لحظة التحول التي يتحول فيها “نخنوخ” إلى “رئيس جمهورية”.

هو ابن عصر تقسيم الدولة إلى “جمهوريات” أو إقطاعيات. يدير كل جمهورية “كبير” موثوق به. يترك له السلطة والثروة والسلاح ليسيطر على “جمهوريته” ويضمن الولاء للريس الكبير.

نخنوخ بالتأكيد كان سيصبح وزيرا للداخلية أو للاستثمار إذا ما عاد مبارك أو عائلته أو المافيا المولودة برعايته.

نخنوخ أمير، كما سمته الصحافة وقت القبض عليه، لكنها أخطأت حينما استسهلت وحصرت إمارته في البلطجة. هو لا يفصل بين “المافيا” و”الدولة”، فكلاهما بالنسبة له كيان واحد يحقق الااستقرار للبلد، و يمنحه فرصة تضخيم الثروة واتساع القصور وملاعب المتع الفاخرة.

“مثقف عضوي” بمعنى من المعاني المقلوبة، فهو مدافع عن مصلحة “البلد” كما رآها “الريس”، وكان يقصد في تصريحاته الرئيس محمد حسني مبارك. وهو صادق حين يقول إنه كان “يخدم البلد ويراعي مصالح المسؤولين الكبار الذين كانوا يحركون الدولة كما يشاءون”.

هو ذراع السلطة، وكان من الممكن أن يتحول إلى عقلها إذا دارت الدائرة وأراد مركز (الجمهوريات/الاقطاعيات) مكافأة رجاله المخلصين أو تغيير مسمياتهم، ساعتها لن يكون نخنوخ أميرا للبلطجة، لكنه “بطل …شعبي” له بطولات في حماية البلاد من “العناصر المندسة” و”العملاء” بداية من السيطرة على الانتخابات إلى السيطرة على استقلال “الجمهورية /الاقطاعية” في مواجهة الخطر القادم.

وهذا ماجعل نخنوخ يعتبر أن له ثأر مع الإخوان، وأن القبض عليه مؤامرة إخوانية، بينما كان يؤدي مهمته للحفاظ على أركان الدولة حتى يعود أصحابها.

وعي نخنوخ ليس عابرا، ولا خرافيا، إنه الوعي السري الذي حكمت به مصر سنوات طويلة، واختير أهل الثقة من نوعية نخنوخ للسيطرة المحلية، بعيدا عن القانون وصداع الحقوق ومستلزمات الدولة الحديثة.

حداثة نخنوخ في المتع (خمر وحشيش) والصداقات مع النجوم، والقدرات الواصلة لحل أي مشكلة والوقوف أمام سلطات بيروقراطية تطبق قوانينها على المواطنين، لكنها أمام “رئيس جمهورية ” تتحول إلى خدم وحراس. وقف نخنوخ أمام القضية فخورا مبتسما، هو محارب في استراحة عابرة، يتوعد ويروي تفاصيل سيطرته على “جمهوريته” و يهدد باعترافات مصورة تورط كل من يتصدر المشهد الآن (منهم قيادات اخوانية…).

نخنوخ يتجاوز إحساس المتهم إلى “المقاوم” لسلطة تجلس الآن على مقاعد سلطة كان يعمل في حماها ولاستقرارها. هو ابن نظام بنى شبكات من سلطة موازية، أقرب إلى عصابات سرية تعبر عن وجود قوي موازية لسلطة الدولة.

قوى مالية وعائلية وربما طائفية وسياسية، تحاول حسم الحروب الصغيرة، وقطع الطريق على من يهدد مصالحها، عبر تجنيد عناصر مدربة في عصابات محترفة.

كان الشعور بوجود هذه العصابات أحيانا أخطر من وجودها الفعلي، لأنها ربما تكون في لحظة من اللحظات عنصر حاسم في حسم معركة سياسية أو قضائية، يتعطل فيها القانون و ينتصر فيها الأقوى أو الأكثر قدرة على الإيحاء بأنه الأقوى.

لم تهزم هذه السلطة الموازية عندما سقط مبارك كما انهار حزبه، لكنها استمرت وشكلت الحرس الأخير للنظام.

تقاسم المناطق

نخنوخ مميز بين شخصيات ظهرت وكشفت عن مساحة الاعتماد على هذه السلطة السرية/المعلنة. إنه تصريح غير معلن بوكالة إدارة منطقة من المناطق صاحب التصريح يمكن أن يكون شخصاً عادياً، لكنه فجأة يتحوّل إلى «زعيم مافيا» يحكم ويتحكم ويدير عصابات ويؤدي أدواراً في السيطرة على منطقته. هذا الدور يقال إنه بتكليف من الأجهزة الأمنية. ولا رد من الأجهزة سوى تصريحات بالنفي لا يصدقها الناس غالباً.
البربري لم يصل إلى مستوى عزت حنفي أو نوفل سعد، لكنه تصرّف مثلهم، أو كان في طريقه لفرض سيطرته على المنطقة. وهذا لا يكون إلا مكافأة. السؤال هو على ماذا؟ على تأمين المنطقة أو على إرشاد المباحث عن أسلحة ومخدرات. أخطر الأدوار تكون عادة في «تقفيل» الانتخابات وسرقة الصناديق أو تخويف الخصوم وأداء دور سرّي في حسم الانتخابات.

هذه الشبكات موجودة و عملت بشكل متوتر أثناء المرحلة الانتقالية الأولى، وكانت حصن المقاومة الفعال في وجه الثورة.

ليس معروفا بدقة حجم هذه الشبكة أو مدى تأثيرها لكنها مازالت مؤثرة ويمكن تفعيلها من قبل أي سلطة، لأنها ببساطة تعمل بقانون الولاء للراكب على السلطة.

نخنوخ الفخور بقوة الدهاء، القدرة على السيطرة عل آلاف الرجال، حسم معارك انتخابية من الرئاسة إلى البرلمان، وكان بين قومه رئيسا يرعى و يوجه و يوظف إمكانات أهل جمهوريته لصالح ما يراه في “مصلحة البلد”.

إنه الذراع القوية التي تتحرك في الخفاء بخفة بعيدا عن تعقيدات القانون لتحسم الخلافات وتفرض حضور القادر على دفع تكاليفها. زعماء هذه العصابات أصبحوا شركاء في السلطة و”مثقفيها العضويين”. ليس نخنوخ الفصيح الأول الذي يحمل وعيا أو يرضي منفذ الأوامر، عزت حنفي رئيس جمهورية آخر في الدخيلة (في الصعيد) كان فيلسوفا (بمعنى ما) وشاعرا …يحمل بين كلماته “أيديولوجية” للحكم والسلطة.

هؤلاء ليسوا بلطجية بالمعنى التقليدي، ولا مجرمون، إنهم شركاء في سلطة تتعرض شركتها الآن لإعادة بناء أو توزيع لحصص المصالح.

وهذا سر لغة تحدي نخنوخ للجميع. فهو يدافع عن جمهوريته وحدودها في مواجهة المؤامرة…”الاخوانية”.

وهذا أيضا سر انشغال الاخوان بنخنوخ، فهو “لاوعي” دولتهم. التي تبدو زواجا بين مافيا مهزوم ومافيا تعفنت في حضانات التربية الرشيدة. المافيا المهزومة خرجت لتستدعي سلاحها من العصابات السرية، لكنها تواجه أيضا برغبة من خريجي الحضانات الاخوانية في الحكم. كلاهما بائس لكنهما في استعراضات مشتركة، يحاولون فيها إعادة الناس إلى أحضان الخوف القديم، لتتشكل مافيا جديدة، شرطها الأول التخلص من “الشعب” الجديد الذي لا يحب الاستقرار على أنغام المافيا.