قرابة25  ألف مواطن غادروا سليانة (في شمال تونس) باتجاه العاصمة؛ تاركين وراءهم مدينة شبه خالية. رحلوا ولم يتركوا غير رماد العجلات المطاطية المحترقة، وحجارة متناثرة في كل مكان، وعبوات غاز فارغة على شوارع مقطوعة.

رحل أهالي سليانة مرددين “الثورة ثورة زوالي (فقير) لا الوالي والجبالي”، وذلك بعد أن رفض رئيس الحكومة حمادي الجبالي إقالة والي سليانة. رحلوا كتعبير عن استيائهم من حالة اجتماعية مزرية سماتها الفقر والبطالة والتهميش.

قرابة25  ألف مواطن غادروا سليانة (في شمال تونس) باتجاه العاصمة؛ تاركين وراءهم مدينة شبه خالية. رحلوا ولم يتركوا غير رماد العجلات المطاطية المحترقة، وحجارة متناثرة في كل مكان، وعبوات غاز فارغة على شوارع مقطوعة.

رحل أهالي سليانة مرددين “الثورة ثورة زوالي (فقير) لا الوالي والجبالي”، وذلك بعد أن رفض رئيس الحكومة حمادي الجبالي إقالة والي سليانة. رحلوا كتعبير عن استيائهم من حالة اجتماعية مزرية سماتها الفقر والبطالة والتهميش.

مسيرة أهالي سليانة كانت رمزية، فقد عادوا أدراجهم بعد قطع حوالي أربعة كيلومترات. لكن المسيرة كانت خطوة رمزية توحي بالرحيل من الولاية، التي تشهد لليوم الرابع على التوالي إضراباً عاما واحتجاجات على والي الإقليم منذ أكثر من أسبوع. إذ تعاني المنطقة من تهميش لأكثر من 50 سنة، وهي لا تزال تنتظر والياً تنموياً ينهض بها ويساهم في تضييق الهوة بينها وبين بقية أقاليم البلاد.

الساحات الفارغة شهدت على مر الأيام الثلاثة الاخيرة من الأسبوع الماضي، مواجهات عنيفة بين متظاهرين لا يملون، ورجال أمن لا يدخرون جهداً في تفريق المتظاهرين.

رصاص الرش لم يستعمل منذ الاستقلال

وقد سجل مستشفى سليانة حالات عمى نتيجة استعمال رصاص “الرش” وعدد من الإصابات الخطرة الأخرى فاقت 300 إصابة لمواطنين من بينهم 18  أصيبوا بإعاقة عضوية.

و”الرش” هو سلاح محظور يستعمل للصيد فقط، لكن وزارة الداخلية التونسية رأت أنه أفضل حل لتفريق المتظاهرين بدلاً من خراطيم المياه وغيرها من الوسائل.

واعتبرت الجمعية التونسية الأورومتوسطية للشباب أن رصاص الرش “الذي لم يُستعمل في تاريخ تونس منذ الاستقلال ولم يستعمل إلا في قمع الاحتجاجات في دول لها تاريخ طويل في اتباع سياسات القمع والعنف والإجرام تجاه شعوبها، يعتبر وصمة عار في تاريخ تونس.”

حماسة المتظاهرين تزداد كل يوم مع وقوع عدد إضافي من المصابين منهم، ومع كل تصريح حكومي يستهزأ من مشاعرهم ويهمش مطالبهم.

“ديغاج” أو “ارحل” لم يعد لها معنى

بدأت القصة عندما عجز عدد من الموظفين بمقر الولاية (المحافظة) عن طرد الوالي من مقر عمله بطرق سلمية، مستعملين عبارة كانت منذ اندلاع الثورة التونسية كلمة سحرية مؤدية لانفراج الأزمات لا إلى الهلاك وهي عبارة “ديغاج” أي “ارحل”، التي صاح بها التونسيون بصوت واحد يوم هروب بن علي. كما كانت هذه الكلمة وراء إزاحة عدد كبير من بقايا النظام السابق في الإدارة التونسية. هذه الكلمة كانت منقذة للشعب إلى أن قرر رئيس الحكومة الحالية حمادي الجبالي إنهاء صلاحيتها، عندما قال إن هذا الوالي لن يرحل وسيظل والياً على سليانة رغم كل شيء، وأن كلمة “ديغاج” لم تعد سارية المفعول.

تصريح الجبالي سبب احتقاناً شديداً في نفوس الأهالي، الذين اعتبروه تحدياً صارخاً لمشاعرهم، وسماه أحمد الشافعي الكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي للشغل (ممثل أكبر وأقدم منظمة نقابية)، بالفصل الجديد من فصول التهميش لولاية سليانة والاستخفاف بسكانها.

على هذا الأساس أعلن الاتحاد الجهوي للشغل يوم الثلاثاء 27 نوفمبر/تشرين ثان يوم إضراب عام بالجهة. وجرت مسيرة احتجاجية بالمدينة انتهت بمواجهات عنيفة بين الأمن والمتظاهرين. مما جعل الطرف النقابي يصف هذه الاعتداءات بالوحشية، ويقرر الدخول في إضراب عام مفتوح إلى حين تحقيق مطالب ثلاثة: هي رحيل الوالي، الذي اعتبره “الغاضبون” عائقاً في وجه التنمية، وإطلاق سراح الموقوفين على خلفية مشاركتهم في تظاهرات احتجاجية منذ تسعة عشر شهراً ولم يحاكموا إلى اليوم. كما طالب اتحاد الشغل بتحديد جلسة عمل وزارية عاجلة يقع فيها رسم خطة واضحة للتنمية بالجهة ويكون ممثلاً فيها.

تعنت حزب النهضة

أما الأهالي فقد ساندوا موقف الاتحاد، وتجمع الكثيرون منهم في اليوم التالي أمام مقر الاتحاد منذ ساعات الصباح الأولى. عدد من الحقوقيين وسياسيون من رؤساء الأحزاب المعروفة ساندوا التحرك الشعبي، في حين أصر حزب النهضة الحاكم على موقفه، معتبراً أن الحركات الاحتجاجية من صنيعة المعارضة وأن المتظاهرين مجرد مأجورين، وأن أصل الخلاف خصومة بين موظفين بمقر الولاية هما إبراهيم الزناقي مدير مكتب الوالي وسميرة الفرجاوي الكاتبة العامة للنقابة الأساسية لعمال وموظفي الولاية.

الحادثة، التي تم ربطها بالحركة الاحتجاجية، حصلت فعلاً، وكانت دافعاً لدخول عمال الولاية في إضراب مفتوح منذ يوم 21 أكتوبر/تشرين أول، كموقف مساند لزميلتهم واحتجاجاً على موقف الوالي الذي تمادى في السكوت عن تجاوزات مدير مكتبه، كما قال الموظفون.

من جهته أكد المتهم اعتداءه اللفظي على زميلته وأنكر الاعتداء المادي، وقال إن ما حصل لا يعدو أن يكون سوى “تآمر أطراف يسارية ونقابية وعداء للنجاح الذي حققه الوالي، حتى أنه نجح في إنفاق أكثر من 70 في المائة من الميزانية المخصصة للتنمية بالجهة.”

وفي سياق متصل ساند الاتحاد الجهوي للشغل الإضراب، فهو يعتبر أن إبراهيم الزناقي هو العصا الغليظة التي يضرب بها الوالي الموظفين والأهالي على حد سواء. ويرى أن ميزانية التنمية المخصصة لولاية سليانة لا تبلغ نصف الاعتمادات التي خصصتها الدولة لولايات مجاورة مثل سيدي بوزيد، رغم اشتراك الولايتين في عدد من المؤشرات التنموية كالبطالة، التي تبلغ نسبتها في صفوف حملة الشهادات الجامعية أكثر من 50 في المائة، وفي مجمل ولاية سليانة حوالي 23.3 في المائة، في حين يبلغ معدل البطالة على المستوى الوطني 17.6 في المائة.

تصريحات حكومية مغايرة لمطالب المواطنين، فتحركات نقابية تليها مواجهات بين الأمن والمتظاهرين، فسقوط عدد من الجرحى، كل ذلك أصبح مشهداً يتكرر يومياً في سليانة. حتى الاجتماع الحكومي بممثلي اتحاد الشغل لم يفلح في إخماد انتفاضة أبناء الجهة، فالحكومة لم تقِل الوالي من مهامه رغم كل ما حصل، وعناصر وحدات التدخل ما زالت فوق تراب سليانة. وهذا ما اعتبره بعض الأهالي استفزازاً لمشاعرهم وطالبوا بالرحيل الفوري لمن تسبب في أذى أبنائهم، وباعتذار رسمي من رئاسة الحكومة.

ذات المطلب وردت في لائحة اجتماع الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل المنعقدة الأحد 2 نوفمبر/تشرين ثان، والتي تمت فيها المطالبة بالرحيل الفوري لقوات الشرطة من الجهة وتعيين والٍ جديد لسليانة يتفاعل إيجابياً مع مطالب أبناء الجهة بسرعة. كما طالب الاتحاد الحكومة التعامل بجدية مع قضايا التنمية بالجهة مقابل تعليق الإضراب لمدة 15 يوماً.

هذا الاجتماع جاء كنتيجة لتشاور الاتحاد الجهوي للشغل مع الأهالي ومكونات المجتمع المدني حول نتيجة المفاوضات، التي جرت مع وفد حكومي يوم السبت الماضي (1 ديسمبر/كانون أول)، بحيث تقرر تعيين المعتمد الأول (المسؤول الجهوي الثاني) محل الوالي إلى حين اتخاذ قرار في شأن هذا الأخير، وتسريع إجراءات محاكمة الموقوفين، بالإضافة إلى تعبير الحكومة عن استعدادها لملاقاة ممثلي المجتمع المدني والسياسي لمحاولة تحديد خارطة طريق واضحة لتحسين واقع الولاية. هذا الواقع الذي جعل أحد المتظاهرين يقول: “لم نعد نطالب بالتنمية، بل كل ما نطلبه اليوم هو دار للمكفوفين”. في إشارة إلى عدد حالات الإصابة بالعمى جراء المواجهات مع قوات الأمن المدججة بأسلحة “الرش”.