لم يكن سهلا أن تقتنع عائلة الفتاة التونسيية “شلبية” بزواجها من رجل أوروبي، فقد كان وقع خبر زواجها بأجنبي مزلزلا في محيط أسري تحكمه أعراف تمنع زواج الفتاة حتى من رجل تونسي غريب عن مدينتها.
لقد مثل زواج “شلبية” من صديق شقيقها البلجيكي الذي زار تونس لقضاء عطلته الصيفية حدثا صادما لأسرتها وأصدقائها ما جعل العديد منهم يمتنع عن حضور حفل زفافها خوفا من أن تطالهم الشبهة بالمشاركة في هذا الارتباط المحرم، حسب اعتقادهم.
لقد كان مجرد الحديث عن الزواج المختلط في تلك الفترة (الثمانينات) أشبه بجريمة لاسيما في محيط اجتماعي محافظ تربى على زواج تقليدي بين زوج وزوجة من نفس الوسط العائلي أو الجغرافي.
وبسبب تلك العادات عادة ما يقرن زواج تونسي أو تونسية من أجنبي غير مسلم بالخروج عن تعاليم الدين الإسلامي، بالرغم من إعلان “روبارتو” اعتناقه الإسلام والتزامه أمام عائلة زوجته بالالتزام بكل تعاليم الدين.
في حديث لـ”مراسلون” تقول شلبية التي تناهز اليوم عقدها الثامن إنها كانت تدرك منذ بداية قرارها بالزواج من “روبارتو” الذي تحول اسمه لاحقا إلى “كريم” تحديا لا يغتفر لتقاليد أهالي منطقتها. غير أن تمسكها بالشخص الذي اختاره قلبها جعلها تتحدى كل الصعوبات التي واجهتها بنجاح.
ماتزال “شلبية” تستحضر كل تفاصيل تلك المرحلة من حياتها وكيف كانت نظرات الاستغراب تلاحقها من أقرب الناس إليها وكيف كانت تسمع وشوشات الجيران وهمساتهم بمجرد المرور بأزقة حيها.
زوجة “القاوري”
“زوجة القاوري” (الأجنبي) هكذا كان ينعتها أهل مدينتها. وهذه الكلمات كانت أشبه بالشتيمة التي تحمل أكثر من معنى بحسب “شلبية” فهي بالنسبة لهم خائنة للوطن ومارقة عن الدين ومتمردة على التقاليد.
تُقر شلبية بصعوبة الزواج المختلط فقد كان زواجها من رجل بلجيكي مغامرة غير محسوبة العواقب خاصة وأنها لم تكن تعرف أي شيئا عن الحياة التي تنتظرها في بلجيكيا بعد انتقالها للعيش معه في بلده.
اكتشفت الفتاة التونسية التي تحولت مباشرة بعد زواجها إلى بروكسيل أن ما ستواجهه في بلجيكيا لا يقل صعوبة عما واجهته في مجتمعها العربي حيث لم تتمكن من الاندماج في المجتمع الأوروبي بسهولة.
في بداية مسيرتها مع زوجها اصطدمت “شلبية” برفض عائلة زوجها فقد كانوا يرفضون الاندماج معها. تقول “في البداية كان الأمر صعبا للغاية لقد احتجت مدة طويلة حتى تأقلمت مع حياتي الجديدة”.
تمكنت “شلبية” مع مرور الوقت والاحتكاك مع الناس من الاندماج تدريجيا في مجتمع غربي متحرر يناقض مع ما كانت تعيشه في منطقتها المحافظة. “لقد ساعدني زوجي بفض إحاطته من الاندماج”.
وبالرغم من انقضاء أكثر من 40 عاما على زواجها تعتبر “شلبية” أن زواجها المختلط لا يزال يثير فضول العديد من معارفها ممن لا يفوتون الفرصة للغوص في أدق تفاصيل حياتها مع “روبارتو”.
ظاهرة قديمة
حول هذا النوع من الزواج يقول الباحث في التاريخ زهير بن يوسف أن الزواج المختلط في تونس له أصول قديمة. “لا يعد زواج تونسيات بأجانب أمرا مستحدثا لكن هذه الزيجات تدخل في باب المسكوت عنه”، وفق قوله.
ويضيف عليه لـ”مراسلون” أن المحافظات التي مر منها المستعمر الفرنسي أو استوطن بها أوروبيون على غرار الإيطاليين والمالطيين والإسبان وغيرهم كانت تعرف زيجات مختلطة وقصص حب بين تونسيات وأجانب مقيمين في تلك المناطق.
غير أن أغلب هذه الزيجات كانت تنتهي بنبذ العائلة والمجتمع للفتاة التي تتزوج بأجنبي ما يدفعها إلى الهرب أو المغادرة خارج البلد لاسيما وأن القانون التونسي لا يسمح بترسيم عقد الزواج الرسمي ما لم يلعن الزوج عن إسلامه.
وإن لم تتطرق مجلة الأحوال الشخصية في تونس التي تنظم حياة الأسرة إلى اختلاف الدين كمانع من موانع الزواج، إلا أن المنشور الصادر عن وزير العدل والمؤرخ في 5 نوفمبر 1973 منع ضباط الحالة المدنية وعدول الإشهاد من إبرام عقود زواج مسلمات بغير المسلمين معتبرا ذلك إجراء غير قانوني. وفي المقابل يجوز ذلك الزواج في صورة ثبوت إشهار الأجنبي إسلامه لدى مفتي الجمهورية.
وقد عرف الفصل 14 من المجلة الموانع الشرعية للزواج بأنها مؤبدة ومؤقتة ولا وجود لزواج المسلمة بغير المسلم ضمن موانع الزواج.
مطالب حقوقية
ووقعت 60 جمعية تونسية ضمن ائتلاف جمعيات مدنية على نداء لإلغاء هذا الإجراء الصادر عن وزارة العدل التونسية في سنة 1973 والذي يحظر زواج التونسيات المسلمات بغير المسلمين.
وتقول الناشطة الحقوقية سناء بن عاشور التي كانت تترأس سابقا جمعية النساء الديمقراطيات إنه “ليس من المقبول اليوم أن يتحكم مجرد إجراء لا قيمة قانونية تقريبا له في حياة الآلاف من التونسيات”.
وتعتبر الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية أن الإجراء يطرح أصلا إشكالية أخرى حيث يعرف التونسيات بأنهن أصلا مسلمات في حين “لا توجد أي وثيقة تؤكد الديانة” في الجمهورية التونسية.
كما تعتبر الجمعية ذاتها أن هذا الإجراء يتعارض مع الدستور التونسي الجديد بعد الثور ة الذي تمت المصادقة عليه عام 2014 والذي ينص على حرية الضمير والمساواة بين المواطنين دون تفرقة.
ويأمل ائتلاف الجمعيات في سحب الإجراء المعمول به في تونس بحلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وهي تطمح للتوصل إلى الحصول على دعم الرأي العام ودعم الحكومة لتجاوز هذا الإشكال القائم.
وتعتبر تونس من الدول الطلائعية في مجال حقوق المرأة في العالم العربي، وقد نص دستورها لعام 2014 على المساواة بين المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات وحرية الضمير والمعتقد.
وتشير أرقام صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء في تونس إلى أن 30 ألف امرأة تونسية هاجرت سنة 2004 للعيش في دول أجنبية بسبب الزواج المختلط.
ويدخل ضمن هذا الرقم زواج تونسيات من عرب مسلمين، ويؤكد مختصون أن هذا العدد تزايد في السنوات الأخيرة.