لم يبق من شهر رمضان سوى أيام معدودات ولكن كلما شارف على الانتهاء أصبح له مذاق خاص ومميز في رحال المدينة العتيقة بالعاصمة تونس لما تزخر به من أسواق تقليدية ومقاهي قديمة ومساجد ومقامات.
ولشهر رمضان في المدينة العتيقة ومسالكها السياحية مذاق خاص حيث تتزين أزقتها بالفوانيس الملونة وتعج مقاهيها فيما تتحول المدارس القديمة على غرار “السليمانية” و”العاشورية” و”دار الجدود” إلى فضاءات ثقافية تحتضن العروض الموسيقية للإنشاد الصوفي والمالوف فيما تعج أنهج الأسواق التقليدية بالباحثين عن عبق التاريخ في هذه الأماكن.
و”المدينة العربي” كما يصطلح عليها محليا هي الجزء العتيق من مدينة تونس، تأسست عام 698 ميلادي حول جامع الزيتونة، وصُنفت منذ عام 1979 ضمن لائحة مواقع التراث العالمي لليونسكو.
مقهى “الشواشين”
وتمتد المدينة على ثلاثة كيلومترات فوق ربوة مطلة على البحر، من باب الفلة وباب عليوة من الجهة الجنوبية، إلى باب سعدون في الجهة الشمالية وباب العلوج من الجهة الغربية، وباب البحر شرقا.
ويعد مقهى “الشواشين” القبلة الأولى لزوار المدينة العتيقة حيث تعدّ هذا المقهى الذي ارتبط اسمه بصناعة الشاشية مكان الالتقاء المفضل لكل شرائح التونسيين وحتى الوافدين على المدينة من سياح محليين وأجانب.
ومقهى “الشواشين” الذي يفوق عمره قرنين من الزمن (يعود تاريخ تأسيسه إلى نهاية القرن 19) هو أحد أكثر الأماكن حيوية في المدينة العربي، فرغم بساطة ديكوره مقارنة بالمقاهي العصرية، إلا أنه يصعب الحصول على مكان في هذا المقهى طيلة شهر رمضان.
وتقول بسمة الغزي التي ترتاد مقهى “الشواشين” أسبوعيا في رمضان إن هذا المقهى الأقرب إلى قلبها، معتبرة أن كل زاوية من هذا المقهى تكتب تاريخ البلاد من الفترة حكم البايات إلى مرحلة الاستعمار ثم الحركة الوطنية إلى تونس ما بعد الاستقلال وما بعد الثورة.
وتضيف بسمة لـ”مراسلون أن مقهى الشواشين وبقية معالم المدينة العتيقة تكتسب قيمتها من بعدها التاريخي فهي تختزل ذاكرة الوطن بحسب قولها وهو ما يحوّلها إلى قبلة مفضلة للتونسيين الفارين من صخب الحياة العصرية.
في أزقة لم تعتد على السهر والصخب إلى ساعات متأخرة يتجمع التونسيون بحلول رمضان في المقهى العتيق حول طاولاتهم الخشبية المزخرفة تحيط بهم اللوحات الجدارية الكبيرة التي ترسم الحياة داخل المدينة حيث يستمتع مرتادو المقهى باحتساء القهوة العربية التي تطهى على الفحم والشاي الأخضر وتدخين “الشيشة” (النرجيلة) ولعب الورق على أنعام الموسيقى القديمة وأغاني التراث.
ويتمنى منجي النادل بمقهى الشواشين أن تكون كل أيام السنة رمضانا، معتبرا أن شهرا واحدا في السنة قادر على كسر السبات الذي تعيشه ليالي المدينة بقية العام .
ويقول منجي لـ”مراسلون” أن عدد زوار المقهى يتعدى عشرات المئات يوميا في رمضان وهو ما يمكن من خلق فرص عمل جديدة وإضفاء حركية إقتصادية كبيرة على محيطها بسوق الشواشين وسوق الذهب (البركة) والعطارين وبقية الأسواق الأخرى.
ويأسف نادل المقهى أن تهدأ الحركة ليلا في المدينة العتيقة بعد انتهاء شهر رمضان، معتبرا أن سبات المدينة ليلا بقية أشهر السنة يحرم السياحة التونسية من عائدات كبيرة بسبب عدم إمكانية فتح المحال التجارية والترفيهية إلى توقيت متأخر.
ويضيف منجي أن المدن العتيقة في جل البلدان السياحية لا تنام على غرار ساحة الفناء بمدينة مراكش المغربية أو مقهى “خان الخليلي” في مصر، داعيا السلطات إلى السماح للمقاهي السياحية بالعمل إلى ساعات متأخرة ليلا في فصل الصيف والاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية المتعددة التي يمكن أن تمنحها المدينة العتيقة.
أسواق المدينة
وجه آخر من وجوه المدينة، هو محلاتها التجارية وأسواقها العتيقة التي تعود إلى 13 قرنا خلت، فالتجول داخل أزقة الأسواق الضيقة، يتحول خلال ليالي رمضان إلى رحلة في التاريخ.
سوق “العطارين” مثلا المتخصص في بيع العطور وأنواع العود والطيب المختلفة وسوق “البركة” المتخصص في بيع الذهب والحلي بأنواعه المختلفة وسوق “النحاس” الذي تباع فيه قطع فاخرة من النحاس المنقوش، جميعها تعج بالوافدين.
وتوجد في المدينة العربي أو العتيقة حوالي 40 سوقا تشمل تخصصاتها معظم النشاطات التجارية، بينها 26 سوقا مسقوفة، منها 16 سوقا بنيت حول جامع الزيتونة.
ولا يخل الإقبال على المدينة العتيقة في شهر رمضان من طابع روحي عميق فبالإضافة إلى ارتياد جامع الزيتونة لصلاة التراويح يقصد جزء من التونسيين مقامات الأولياء الصالحين والزوايا الصوفية المنتشرة داخل أسوار “البلاد العربي” أين تحتفل هذه الزوايا والمقامات بشهر رمضان بمواكب الإنشاد الديني والصوفي ومجالس الذكر على غرار زاوية “سيد إبراهيم الرياحي” مفتي تونس الأسبق وزاوية الشيخ “محرز بن خلف” في منطقة الحلفاوين ومقام “سيدي بن عروس” بالقرب من جامع الزيتونة.
ويفسر الباحث في علم النفس الاجتماعي سامي نصر إقبال التونسيين بكثافة على المدينة العتيقة في شهر رمضان بتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم لا سيما بعد الثورة، معتبرا أن محاولات تغيير النمط المجتمعي للتونسيين في السنوات الأخيرة أفرز حركة مضادة بالتعلّق أكثر من أي وقت مضى بكل ما له علاقة بهذه العادات والتقاليد معتبرا أن المدينة العتيقة تختزل كل هويتهم.