شهدت مدينة سيدي بوسعيد الواقعة في الضاحية الشمالية للعاصمة تونس إقبالا كبيرا منتصف شهر رمضان للمشاركة في “خرجة” المتصوف “سيدي بوسعيد الباجي” الذي عرف بمناقبه وكرماته.
أعداد غفيرة من أهالي المدينة والزوار جاؤوا للاستمتاع بأنغام الصوفية على الطريقة العيساوية التي دأب الجميع هنا على معايشتها في احتفالات “خرجة” سيدي بوسعيد منذ قرون.
بعد أن تجمعت الناس من حول فرقة العيساوية قرب مقام “سيدي بوسعيد” قرب مقهى “القهوة العالية” الشهيرة علت الأصوات وزغاريد النساء ودقات الطبول والدفوف لإطلاق العنان لهذا الاحتفال.
حشود كبيرة
غصت شوارع مدينة سيدي بوسعيد بالناس الذي جاؤوا من كل صوب لإحياء هذا التراث القديم المتجدد وسط ابتهالات وأناشيد الصوفية وإيقاع الدفوف المتواتر والأذكار والأمداح النبوية.
تقدم “خرجة” سيدي بوسعيد، الذي يعتبره التونسيون وليا صالحا متزهدا، حملة الأعلام الملونة ثم شيوخ المقامات فأعيان المدينة ثم المنشدون والراقصون على أنغام أناشيد العيساوية.
ومجموعة العيساوية بمدينة سيدي بوسعيد توارثتها أجيال منذ قرون، وعادة تقيم احتفال “الخرجة” أواسط شهر آب/أغسطس من كل عام، لكن هذه المرة فضلت إقامته منتصف شهر رمضان المبارك.
بعد هبوط مجموعة العيساوية من أعلى ربوة مدينة سيدي بوسعيد الجبلية الساحرة إلى وسط المدينة وذلك وسط الغناء والأذكار ووسط الحشود الغفيرة للناس، تعود ثانية إلى مقام سيدي بوسعيد.
يجتمع الناس وسط باحة مقام سيدي بوسعيد بن خلف التميمي الباجي، وهو ولي صالح متزهد في نظر التونسيين، في حين تواصل مجموعة العيساوية الإنشاد الصوفي الذي يغذي نفوس الحاضرين.
نوبة العيساوية
وسط إيقاع ضربات الدف المتتالية والابتهالات الدينية ينشد شيوخ المقامات وأتباعهم بلهجة تونسية متحمسة “يا بوسعيد يا باجي يا رايس الأبحار إن شاء الله زيارة بجاه النبي المختار”.
ولقّب التونسيين قديما الناسك سيدي بوسعيد بـ”رايس الأبحار” لأنه كان يحرس سواحل مدينة سيدي بوسعيد التي سميت على اسمه. وقد اتخذ هذا المتصوف مغارة في جبل للتصوف والتزهد والاعتكاف.
ومع تصاعد أنغام الأناشيد الصوفية التي تمدح النبي تتصاعد نوبات المنشدين وأيضا بعض الوافدين. وقد كانت الشابة التونسية منال من بين المشاركين الذين استسلموا إلى نوبة العيساوية.
لم تكن هذه الشابة الجميلة قادرة على الصمود أمام إيقاع الأذكار والابتهالات الصوفية الرنانة فقفزت من مكانها ترقص بحركات متسارعة محركة راسها في كل الاتجاهات وكأن جنون قد مسها.
بعد جهد كبير جعلها تتصبب عرقا خارت قوى هذه الشابة فأخذت ركنا في مقام سيدي بوسعيد لاسترجاع بعض من أنفاسها، فقد تخمرت حتى كاد يغمى عليها وابتعدت براقصاتها العجيبة عن الواقع.
تقول منال لمراسلون “لقد رحلت لبعض الوقت عن هذا الواقع المادي فلكل واحد منا همومه وأتعابه الدنياوية وقد عشت أحسن لحظات في نشوة روحية نسيت فيها بعض صخب الحياة وضغوطها”.
وطالما يدخل بعض المنشدين في مجموعة العيساوية في حالة من الغيبوبة و”التخمر” تجعل بعضهم يأكل أوراق التين الشوكي في لحظة من لحظات النشوة الجماعية خلال احتفال “الخرجة”.
يقول محمد الحامدي أحد شيوخ العيساوية وشارك في “الخرجة” منذ 1930 إنه كان يتخمر على إيقاع العيساوية وقد كان يأكل أشواك التين واللحم الطازج وغيرها من الممارسات الخارقة.
ويضيف الحامدي لمراسلون بأن هذه الممارسات الخارقة لا يمكن أن يقوم بها إلا من كان مؤمنا بطقوس العيساوية التي تشحنه بطاقة رهيبة في ظل المدائح والأذكار وترتيل القرآن الحكيم.
ونشأت الطريقة العيساوية منذ قرون على يد الناسك المغربي سيدي محمد بنعيسى وانتشرت شمال المغرب العربي. ويظهر من خلال إيقاع العيساوية في تونس تشابها كبيرا مع نظيرتها بالمغرب.
تراث أزلي
ويقول طاهر قطاطة نائب رئيس جمعية المخزن الثقافي التي تنظم خرجة سيدي بوسعيد إن طقوس العيساوية في “الخرجة” إرث قديم يقع إحياؤه منذ عقود طويلة وما زال يشد اهتمام الناس.
ويؤكد طاهر قطاطة أن هذا التقليد السنوي سيبقى قائما وأن شيوخ الصوفية في تونس “لن يتخلوا عن هذه التظاهرات التي تطمح إلى جمع شتات التونسيين حول إرث ثقافي ضارب في القدم”.
ومع أن “الخرجة” تعتبر حدثا ثقافيا بارزا فإن احتفالاتها هذا العام بدت أقل صخبا. فقد انتظمت في ليلة واحدة بعد الإفطار في حين أن هذه العادة كانت تتواصل على امتداد ثلاثة أيام.
وقديما كانت “الخرجة” تتم في منتصف شهر آب/أغسطس من كل عام حيث يأتي زوار مدينة أريانة ومدن مجاورة لمدينة سيدي بوسعيد لقضاء ثلاثة ليالي في مقام سيدي بوسعيد للاحتفال.
وكان الزوار وأهالي مدينة سيدي بوسعيد خلال تلك الأيام الثلاثة يعيشون على وقع الطريقة العيساوية وابتهالاتها الدينية الصاخبة وكانوا يذبحون ثورا ليوزعون لحمه على الفقراء والمحتاجين.
وإلى جانب “خرجة” سيدي بوسعيد الشهيرة يحيي التونسيون على امتداد أيام السنة العديد من الخرجات مثل “خرجة سيدي علي الحطاب” في مدينة المرناقية و”خرجة سيدي مسعود” في جزيرة قرقنة وغيرها.