تكفي زيارة خاطفة لماخور نهج عبد الله قش في المدينة العتيقة بالعاصمة تونس حتى نفهم مدى هلع النساء العاملات هناك من أن يخسرن مورد رزقهنّ. هذا الماخور الأشهر في البلاد، والذي يقع في شارع يحمل اسم وليّ صوفي صالح عاش في تونس نهاية القرن الرابع عشر ميلادي هو الماخور الوحيد الذي بقي بالعاصمة بعد غلق العديد من المواخير الأخرى التي كانت تحمل -وللمفارقة- أسماء أولياء صالحين، على غرار ماخور سيدي بن عين في باب سويقة، وسيدي منصور بن جدران بباب جديد، وسيدي منصور قرب جامع الزيتونة، فضلا عن ماخور “علي واكي” الذي كان مخصصا إبان فترة الاستعمار الفرنسي للمثليين جنسياً.
تكفي زيارة خاطفة لماخور نهج عبد الله قش في المدينة العتيقة بالعاصمة تونس حتى نفهم مدى هلع النساء العاملات هناك من أن يخسرن مورد رزقهنّ. هذا الماخور الأشهر في البلاد، والذي يقع في شارع يحمل اسم وليّ صوفي صالح عاش في تونس نهاية القرن الرابع عشر ميلادي هو الماخور الوحيد الذي بقي بالعاصمة بعد غلق العديد من المواخير الأخرى التي كانت تحمل -وللمفارقة- أسماء أولياء صالحين، على غرار ماخور سيدي بن عين في باب سويقة، وسيدي منصور بن جدران بباب جديد، وسيدي منصور قرب جامع الزيتونة، فضلا عن ماخور “علي واكي” الذي كان مخصصا إبان فترة الاستعمار الفرنسي للمثليين جنسياً. وبحسب الباحثة الاجتماعية دلندة لرقش فإن إقامة هذه المواخير قرب قبور الأولياء الصالحين كان “طلباً الحماية”.
في الباب الخارجي لماخور عبد الله قش يقال لك إن “الدخول ممنوع على النساء”. وحدهم الرجال يمكن أن يتجاوزوا عتبة الباب الخارجي وفيه ما يكفي من الحراس لرصد المقبلين على النهج. يقع الماخور ضمن زقاق طويل مغلق له مدخل واحد يتفرع في داخله على العديد من الأزقة المغلقة والتي تحتوي على غرف متعددة غالبيتها من طابقين.
عادة تعترضك في مدخل كل بيت امرأة كبيرة السن “مسؤولة” عن المومسات أو ما يعرف باللهجة التونسية “بالبطرونة” (كلمة أصلها فرنسي وتعني القائدة patronne) وعادة ما يكون لها تاريخ قديم في العمل، فتتحول إلى “بطرونة” تدير تقاسم الأرباح والعناية بالمومسات دون أن تغادر الماخور الذي تقضي فيه بقية أيام حياتها.
في ماخور عبد الله قش يمكنك أن تدرك منذ الوهلة الأولى أن شيئاً ما تغير في ذلك المكان. ففي السابق لم يكن من الهين أن تجد من تعبر لك عن هواجسها بشكل سريع و منفتح. أما وقد أصبحت البطالة تهدد هؤلاء النسوة فقد يكون الحديث للإعلام سبيلاً لإيصال أصواتهن إلى خارج الأسوار العالية لتلك البيوت التي تشهد على تاريخ بحاله.
التضييق على المواخير
استغرب من وجدتهنّ في باب عبد الله قش أن إمراة مثلي تريد الدخول إلى ذلك الشارع ولكنهنّ كنّ أكثر تعاونا حين علمن بأني صحفية. في الباب الخارجي التقيت أمال التي سارعت نحوي تريد أن تشكو حالها، هي وبعض من نساء عبد الله قش.
آمال، أمّ لولد عمره خمسة عشر عاماً. كانت توفر اللذة لزبائنها بمقابل، ولكن رخصتها سحبت منها وشطب اسمها من من قائمة بائعات الجنس لأسباب “مجهولة” تقول إنها تأتي في إطار “سياسة ممنهجة من قبل السلطات لغلق المواخير”.
غير أن الخوف يصبح أعمق مع المصادقة على مشروع القانون الخاص بمنع الاتجار بالبشر ومكافحته. قانون يمنع الاتجار بأجساد النساء العاملات في المواخير.
الأحزاب تدعم القانون
تزايدت الضغوطات السياسية بتجريم الدعارة مع إقرار البرلمان التونسي لمشروع قانون الاتجار بالبشر في تموز/يوليو الماضي، مدعوماً من قبل نواب الائتلاف الحاكم في تونس والذي يجمع أحزاباً ذات مرجعيات تقول أنها علمانية (حركة نداء تونس) مع حركة النهضة الإسلامية والتي تحوز على العدد الأكبر من عدد مقاعد البرلمان التونسي (69 مقعدا من مجموع 217).
المصادقة على القانون الجديد قضّ مضاجع النساء العاملات في المواخير المقننة في تونس. بنود القانون تشير بشكل صريح إلى منع “أي استغلال جنسي” بمقابل، وهو الأمر الذي تحدث عنه الفصل السابع من القانون الذي يقول “يمنع الحصول على منافع أي كانت طبيعتها من خلال توريط شخص في أعمال دعارة أو بغاء أو تقديم أي أنواع أخرى من الخدمات الجنسية بما في ذلك استغلاله في المشاهد الاباحية.”
يطرح هذا القانون بشكل غير مباشر إمكانية غلق بيوت المتعة الجنسية القانونية أو ما يعرف بـ “المواخير” في تونس والتي تعمل بترخيص من وزارة الداخلية التونسية وتحت اشراف وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة فيما يتعلق بالعناية الصحية من الأمراض المنقولة جنسيا والتغطية الاجتماعية للعاملات فيها.
تأتي هذه المخاوف في ظل غلق العديد من المواخير في تونس منذ اندلاع ثورة 2011 بعد الهجمة التي قامت بها الجماعات السلفية المتشددة على بعضها وغلقها بالقوة دون الاستناد إلى أي قرار قضائي.
قصة ماخور سوسة
التضييق على المواخير بدأ مع الأيام الأولى للثورة التونسية. إذ عمدت أطراف إسلامية متشددة، في أكثر من مناسبة إلى التظاهر ضد تقنين الدعارة. وبين سنتي (2011 و 201) نظم البعض ممن يعتبرون أنفسهم أوصياء على الدين -والعبارة هنا لعاملات ماخور عبد الله قش- مظاهرات أدت إلى إغلاق 12 ماخورا في كافة أنحاء الجمهورية التونسية. فلم يبق في تونس حتى اليوم سوى ماخورين اثنين، ماخور عبد الله قش في العاصمة تونس الذي يشغل حوالي 120 سيدة وماخور مدينة صفاقس الذي يشغل 45 سيدة.
من بين العديد من قصص إغلاق المواخير في تونس اشتهرت قصة إغلاق ماخور مدينة سوسة والذي يقع في مدخل الباب الغربي للمدينة العتيقة. فقد هاجم سلفيون يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011 أي بعد شهر واحد من اندلاع الثورة، بالهراوات والأسلحة البيضاء وأدوات الهدم وقاموا بهدم وإحراق أجزاء منه بعد بطرد المومسات.
سبقت عملية الغلق وطرد المومسات زيارة شيخ سلفي بحريني يدعى “حسن الحسيني” اقتحم الماخور وشرع في إلقاء دروس للعاملات داعيا إياهن الى “التوبة الى الله”. جاءت زيارة الشيخ البحريني في إطار صعود نجم شيوخ السلفية بعد الثورة في ظل حكومة حركة النهضة التي فتحت مطارات ومساجد البلاد للمئات منهم بين سنتي 2011 و2013.
كان لا بد أن نعود وبعد حوالي خمسة سنوات من غزوة السلفيين تلك إلى “ماخور الباب الغربي” في سوسة لنستطلع واقع الحال وخاصة بعد أن تمكنت الدولة من استرداد زمام المبادرة أمام القوى الدينية والدخول في مواجهة أمنية معهم.
البلطجية يريدون حصة من الأرباح
الزائر اليوم لماخور الباب الغربي سيلاحظ بالقطع روائح كريهة تنبعث من المكان، أبواب مهشّمة وآثار حرائق على جدران نبتت على جنباتها أعشاب طفيلية. شبان مراهقون منتشرون في أطلال الماخور وبين غرفه المهدمة بعيدا عن أعين البشر يريدون قبلة مخطوفة من صديقاتهن أو ربما أكثر.
هنا وسط غرف محروقة اتلفت معداتها، قبض منذ فترة على مجموعة من الشباب احتجزوا أحد المعوقين واغتصبوه بالتداول لأيام عديدة قبل أن يقبض عليهم أعوان الأمن وسكان الحي . تلك هي الصورة التي بدت قاتمة في ماخور مدينة سوسة الذي بقي مغلقا منذ حادثة الهجوم عليه بعيدا عن أي إذن قضائي.
وتأسس هذا الماخور من قبل الفرنسيين منذ 1940 و يسمى باب الفينقة ابان زمن الاستعمار الفرنسي قبل أن يطلق على الماخور فيما بعد تسمية “الباب الغربي” .
باءت محاولات إعادة فتح أبواب الماخور من جديد بالفشل في السنتين الأخيرتين حيث قام بعض سكان المدينة العتيقة بسوسة برفع قضية عدلية لإغلاق ماخور مدينة سوسة نهائيا فصدر حكم قضائي بغلقه وتقول مومسات سابقات أنه وقع ممارسة ضغوطات على القاضي من جهات سياسية إسلامية فحكم بالإغلاق المؤقت له.
أين ذهبت المومسات العاملات بماخور سوسة؟ لم يتبخرن طبعاًَ في الهواء ولكنهن نزلن إلى حانات المدينة وملاهيها السياحية الشهيرة وانضممن إلى عشرات أخريات يعملن في القطاع ولكن دون أي رقابة صحية تقيهن وتقي زبائنهن من الأمراض الجنسية المعدية بخلاف الأمر الذي كان جاريا العمل به عندما كن يعملن في “الباب الغربي” تحت إشراف وزارتي الداخلية والشؤون الاجتماعية.
عرفت مواخير مناطق أخرى من الجمهورية المصير نفسه حيث أغلقت أبوابها ليس باذن قضائي، وانما بعد أن هربت النساء العاملات فيها، بالنظر إلى ما مورس عليهن من تخويف وسبّ وتهديدات من قبل مجموعات بعضها سلفي والبعض الآخر من البلطجية.
ماخور الفينقة بسوسة أو ما يعرف بماخور الباب الغربي أصبح اليوم أثراًَ بعد عين. بيوت مازال على حيطانها آثار الحرق والتكسير وكتبت على جدرانها عبارات السب والشتيمة لمن كن يعملن في ذلك المكان. وعلى الرغم من الوضعية التي آل اليها ماخور الباب الغربي فإن العديد من العاملات فيه لم يتوقفن على المطالبة بإعادة تهيئته والحصول على إذن جديد بالعمل داخله. من بين النساء اللواتي لم يتركن باباً الا طرقنه، راضية، سيدة خمسينية السن، بدأت ممارسة الدعارة منذ ثلاثين عاما الى ان اصبحت مسؤولة عن نساء اخريات أو كما ما يصطلح عليه بالبطرونة.
قبل قرار إغلاقه بشكل وقتي تروي لنا راضية قصتها مع الماخور. فتقول إنها عملت سنوات طويلة كمومس ثم قررت أن تستقل بعملها فاستأجرت وسط الماخور ثلاث شقق وقامت بتشغيل خمس نساء كانت توفر لهن المأكل والملبس والسكن وتتقاسم معهنّ معلوم زيارة الزبائن من الرجال.
بعد غلق الماخور وجدت راضية من الشجاعة ما جعلها تطالب السلطات بالنظر بعين الرحمة لنساء ليس لديهن من عمل آخر غير ممارسة الجنس بمقابل. تقول راضية “منذ 2008 وانا اعمل مسؤولة عن الماخور. عندما شرعت في عملي كمسؤولة في الماخور خسرت الكثير من الأموال، لدي أربعة أطفال. ابنتي توفي زوجها في البحر فوجدت نفسي لوحدي مسؤولة عن الجميع”.
وتضيف “بعد غلق الماخور قدّمت طلباً لوزارة الداخلية لإعادة فتحه لأنني لم أجد من يعيلني وأبنائي، وفصّلت في طلبي وضعيتي الاجتماعية الصعبة وعدد أطفالي هذا فضلا عن تشردي في الشارع لأنني لا املك مسكن ولا مورد رزق آخر”. وصلت مطلب راضية بإعادة فتح ماخور سوسة إلى طاولة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وهي تفكر الآن في الاعتصام أمام قصر الرئاسة بالقصبة بتونس العاصمة.
لقد اصبح الامر خطيرا من وجهة نظر راضية التي تحدثت عن فتيات يعملن خارج الأطر القانونية وتضيف في هذا السياق “بيع الجنس اليوم يمر دون أدنى رقابة وخاصة أمام تفشي الأمراض المنقولة جنسيا مثل الأيدز وغيره من الأمراض”.
وتضيف راضية “عندما كان عملنا قانونياً كنا كلما نشغل فتاة جديدة نأخذها للطبيب من أجل التحاليل الصحية، وكان ثمن هذه الزيارة 130 دينارا تونسيا (50 دولار) جزء منه يذهب إلى وزارة الصحة وجزء آخر إلى البلدية”.
بوصفها “بطرونة” أو مسؤولة عن الفتيات في الماخور آنذاك كانت راضية تصطحب الفتيات المومسات إلى الطبيب أو الشرطة إذا تعرضن إلي مشكل ما وكل 15 يوم تصطحبهن إلى تونس العاصمة للقيام بفحص طبي للامراض المعدية جنسيا وخاصة مرض الايدز”. كانت راضية بعد غلق الماخور شبه يائسة من أن يعاد فتح أبواب ماخور باب الفينقة أو الباب الغربي إذ أنها استوفت كل المطالب للسلط الرسمية باعادة فتح الماخور دون طائل.
أثناء لقائنا معها استدعت راضية كل النساء اللواتي كن يعملن معها في غرف المومسات لتشكين لنا ضنك العيش. تقول لطيفة التي كانت تعمل طباخة في ماخور سوسة “الماخور لم يكن يشغل المومسات فقط. هناك نساء مثلي فقدن عملهن، كنت اطبخ للعاملات هناك وأوفر لهن ما يحتجنه من الخارج لأنهن ممنوعات ن مغادرة أسوار الماخور إلا بإذن”.
ماخور سوسة كان يشغل أيضا أطرافا بطريقة غير مباشرة فاضافة الى 300 امرأة مومس هناك 120 عائلة ايضا يقتاتون بطريقة غير مباشرة من الماخور كعاملات النظافة و الطباخين.
تقول راضية في إجابة عن سؤالنا عن الاطراف التي تقف وراء الهجمة الشرسة على ماخور سوسة “صحيح انه في البداية، في الأيام الأولى للثورة، هاجمنا السلفيون احتجاجا على طبيعة عملنا لكن الحكاية لم تنتهي بهرسلة المتشددين بل تواصلت مع عنف أبناء حينا وزمرة من البلطجية المتجبرين الحصول على أجسادنا واستغلالنا ماديا من أجل أن يتقاسموا معنا دون أي وجه حق مرابيحنا”.
نوع خاص من الزبائن
من غادرن المواخير القانونية في تونس وتلك اللاتي التجأن للعمل في الملاهي أو في الشقق المفروشة يعشن أوضاع صعبة وجلهن تحت التهديد الدائم.
زهرة أو نرجس أوغيرها من الأسماء المستعارة التي تستعملها زينب، فتاة في سن الثمانية والعشرين عاما، هي مثال لهذا الصنف من الفتيات خارج جدران المواخير. زهرة هي أم لثلاثة أطفال يدرسون، أكبرهم سنا يبلغ من العمر عشر سنوات، بدت قلقة جدا على مستقبل عائلتها فهي المسؤولة الوحيدة عن أطفالها في سكنهم وملبسهم ودراستهم.
تعمل زينب الآن بشكل غير قانوني كمومس إلا أنها تعاني من مشاكل مادية وخوفا مستمرا من العقاب أو حصول مشاكل لها. فغيرها كثيرات من صديقاتها ممن تعرضن للعنف حد التعدي الجسدي من قبل زبائن ينكلون بالنساء إلى درجة تصل الى ذبحنّ احياناً.
تستقبل زينب نوعا خاصا من الزبائن. إنهم مواطنو الدول المجاورة لتونس على وجه الخصوص. فهم زبائن عادة ما يغدقون عليها وعلى أطفالها. تصرح زينب بريبة وخشية “ماذا العمل؟ هل نمد أيدينا لمن لا يرحمون؟ لقد وجدنا أنفسنا دون عمل. أنا لا أتقن أي اختصاص. تربيت يتيمة وغادرت البيت من بطش زوجة أبي لبطش زوج لم يحسن معاملتي فتركته وطلبت الطلاق ولم أجد من مصدر عيش سوى بيع جسدي”.
“لقد عملت لعشر سنوات في ماخور مدينة سوسة وعاشرت نساء كثيرات مثلي ولكل واحدة منهن حكاية قاسية. منهن المطلقة ومنهن التي تعيل عائلتها وهناك من اغتصبها اخوها او ابوها. كل هاته النسوة وانا معهن فضلنا العمل تحت رقابة السلطة حتى لا يتقاذفنا الشارع وحتى لا نبقى تحت طائلة الاستغلال ونعمل في كنف القانون”. وتضيف: “لكن ماذا بعد غلق هذا الفضاء القانوني؟ الأكيد أن حياتنا ستكون أكثر صعوبة بعده”.
عندما أغلقت أبواب ماخور سوسة حاولت زينب أن تعمل في ماخور مدينة صفافس (جنوب البلاد) المعروف بماخور “حومة السمراء” بالباب الشرقي للمدينة العتيقة، لكنها لم تحتمل أن تكون بعيدة عن أبنائها الثلاثة فخيرت العودة لمدينة سوسة والاكتفاء بما يمكن أن تحصله من زبائن قد يغيبون لفترة طويلة فتغيب معهم الإمكانيات لتضطر زينب للعمل في النظافة مقابل أجر زهيد جدا لا يفي تكاليف عيشها.
سياسة تجفيف المنابع
فضلا عن عمليات غلق المواخير بالقوة العامة السلفية وما أدت اليه من تشريد للمئات من المومسات اجتماعيا ولجوئهن إلى الملاهي والشقق المفروشة والدعارة غير القانونية وما يمكن أن تؤدي اليه من انتشار الأمراض والقضايا الاجرامية تشير عدة معطيات إلى أن جهات في وزارة الداخلية تعتمد سياسية ممنهجة من أجل وقف منح التراخيص للمومسات للعمل في المواخير التي بقيت مفتوحة.
ففي ماخور عبد الله قش، تحكي كل واحدة من المقيمات هناك وتقول إنها مهددة بالطرد بالنظر إلى القوانين الصارمة التي أصبحت تطبق عليهن من إحدى السيدات المشرفات على هذا القطاع في وزارة الداخلية.
تفتعل هذه المسؤولة في وزارة الداخلية المشاكل لبعض السيدات حتى يخرجن من الماخور نهائيا وعدم تجديد ترخيصهن في العمل. في المقابل توقفت الانتدابات الجديدة لمومسات أخريات في عبد الله قش منذ سنوات بما يعني أن العدد يتضاءل بفعل التضييق المستمر ومحاولات بعض الأطراف في وزارة الداخلية عرقلة عمل ماخور تونس العاصمة في سياسية شبيهة بسياسة “تجفيف منابع” ممنهجة. وتجمع جل النساء في عبد الله قش أن هذا التضييق مفتعل و بإملاءات من أطراف تدفع الى اغلاق المواخير في تونس.
اليوم تخاف نساء عبد الله قش ان يصبح مصيرهن مثل مصير زميلاتهن في ماخور سوسة. الخوف والترقب وخاصة اذا ما قررت الحكومة تفعيل قانون الاتجار بالبشر الذي وقعت المصادقة عليه مؤخرا في البرلمان التونسي.
“موظفات مدنيات” مهددات
تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي تقنن مهنة الدعارة ويمارس فيها البغاء العلني منذ سنة 1941 عندما أصدر المستعمر الفرنسي قانونا ينظم هذه “المهنة” وبقي الحال كما هو في عهدي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وبعده زين العابدين بن علي. وتخضع المواخير في تونس إلى سلطة وزارتي الداخلية وكذلك وزارة الصحة من خلال المراقبة الصحية للعاملات بشكل دوري مرتين في الأسبوع.
وصنفت تونس منذ 1942 العاملات في الجنس باعتبارهن “موظفات مدنيات” وهن يدفعن كغيرهن من الموظفين الضرائب كما أنهن يعشن داخل المواخير بنظام صارم حد التضييق على حركتهن. فالنساء العاملات في البغاء ممنوعات من مغادرة الماخور رهم أن بعض خبراء الاجتماع يرى عدم وجاهة في مثل هذه التوجهات.
أستاذ علم الاجتماع طارق بلحاج محمد أحد الرافضين لفكرة غلق المواخير حيث يعتبر أنه سيؤدي ضمنيا إلى تصاعد وتيرة ممارسة البغاء بشكل سري دون رقابة صحية. “فالنشاط الجنسي حاجة بشرية ضرورية سيما لدى غير المتزوجين وهم فئة كبيرة في المجتمع التونسي بالنظر الى تأخر معدلات سن الزواج”.
كلام يتقاطع مع تصريحات الدكتور عبد المجيد الزحاف، المشرف على صحة مومسات ماخور صفاقس فهو يطلق صيحة فزع اذ يرى أن عاملات الجنس بطريقة سرية تصاعد في تونس بعد الثورة. بل إن الدكتور الزحاف الذي خبر منذ سنوات العمل في مجال الصحة لعاملات الجنس يقدر عدد العاملات في مجال البغاء السري بخمسة الاف امراة في الشوارع داخل المدن الكبيرة وعلى الشواطىء وفي الحانات وهو رقم ضخم لكنه غير غريب فقد اوصلنا التحقيق الي الوقوف على حقيقة ان نساء كثيرات في شارع باريس في العاصمة تونس وشارع مرسيليا يتصيدن الرجال لينزوين بهم داخل قاعة للسينما. وفي خلفية قاعات السينما يمارس الرجل الجنس مع المومس ثم يدفع لها و يخرج لتنطلق هي في رحلة بحث جديدة عن رجل غيره.
مع سياسة غلق المواخير سواء بعضلات القوى الإسلامية المتشددة أو تلك التي تستند إلى القوانين الجديدة المضيقة والتي تعتمد “الاسلمة الناعمة”، يقول خبراء الاجتماع إن أقدم مهنة في التاريخ أي الدعارة لن تندثر من شوارع تونس ولكنها ستعيد التوزع جغرافيا ومكانيا بعد أن كانت محصورة وراء أسوار المواخير. والأكيد أن غلق المواخير والتضييق على العاملات فيها هو بداية المشكلة وليس طريقا للحل ولو استندت ذرائع الغلق على حجج قانونية ودينية وأخلاقية.