الساعة السابعة صباحا بشارع ابن خلدون بقلب العاصمة تونس. أصوات غير مفهومة تخرج للشارع من أماكن مغلقة بعض نوافذها مفتوحة قليلا وتتصاعد منها أعمدة من دخان السجائر.
من أول وهلة يخال المار من ذلك الشارع أن تلك الأصوات الصاخبة آتية من مكان شبيه بسوق مكتظة، ولكن تخيلاته تتلاشى منذ أن تطأ قدماه عتبة باب الحانة فيكتشف عالما آخر.
الساعة السابعة صباحا بشارع ابن خلدون بقلب العاصمة تونس. أصوات غير مفهومة تخرج للشارع من أماكن مغلقة بعض نوافذها مفتوحة قليلا وتتصاعد منها أعمدة من دخان السجائر.
من أول وهلة يخال المار من ذلك الشارع أن تلك الأصوات الصاخبة آتية من مكان شبيه بسوق مكتظة، ولكن تخيلاته تتلاشى منذ أن تطأ قدماه عتبة باب الحانة فيكتشف عالما آخر.
هنا في حانة “برشلونة” مثلا لا وجود لمكان شاغر. كل الطاولات ملآنة. الكل يتحدث بصوت عال فتمتزج النبرات العالية والأصوات الصاخبة والضحكات والقهقهات حتى يكاد المرء لا يفقه شيئا مما يدور.
أعيد النظر إلى ساعتي لأتأكد إن كانت عقارب الساعة تشير فعلا إلى السابعة صباحا أم لا بما أن المكان يوحي وكأن الزمان ليلا وبدأت أسال نفسي: “متى جاء كل هؤلاء؟ وهل جاؤوا ليتناولوا فطور الصباح؟”.
لم أكن مخطئا في الوقت ولكن مع ذلك فكل الطاولات ملآنة بقوارير الجعة والخمر، وأمام الحرفاء أطباق من مأكولات تؤكل فقط في الغداء أو المساء، فتجد اللحوم والدجاج والحساء وغيرها من المأكولات الدسمة.
مشهد مألوف
يعمل “أسامة” نادلا في تلك الحانة وبحكم تعوده على العمل في هذا الجو أصبح المشهد أمامه مألوفا لا يلفت للانتباه. فهناك حرفاء “يأتون يوميا لاحتساء الجعة والخمر منذ الساعة السادسة والنصف صباحا”، وفق قوله.
جلست إلى شاب في مقتبل العمر كان منزويا لوحده في طاولة منعزلة نوعا ما لأبحث عن سر ارتياده هذا المكان في الصباح الباكر. فأجابني بهدوء “تعودت على هذا الأمر لا أستطيع التأقلم مع هذا الواقع بلا نشوة”.
يعمل هذا الشاب وهو في الثلاثينات من عمره في مصنع حتى حدود الفجر لكنه عوضا أن يعود أدراجه لمنزله ليخلد للراحة يذهب إلى العاصمة تونس حيث تعمل بعض الحانات إلى ساعات متقدمة من الصباح الباكر.
يلفت انتباهك عند التجول في العاصمة تونس إقبالا متزايدا من الناس على ارتياد الحانات المنتشرة هنا وهناك وقد يعترضك في أزقة قلب العاصمة بعض المارة يتمايلون يمينا وشمالا بفعل تأثير المشروبات الكحولية.
عزيز هو شاب ناهز الأربعين يرتاد باستمرار حانات العاصمة بالرغم من ظروفه المادية الصعبة فهو بالكاد يحصل على مصروفه لأنه عاطل منذ سنوات رغم أنه بحث طويلا عن عمل في مجال اختصاصه كطباخ.
استطاع عزيز مؤخرا بفضل مساعدة عائلته أن يفتح مركزا لخدمات الانترنت والألعاب الالكترونية للأطفال غير أن قلة مداخل مشروعه جعله يضطر للتداين من أجل تسديد نفقاته لكن أغلب ماله “يذهب للحانات”.
نفس الشيء يتكرر مع الفتاة الشابة (خ.ش) التي تعيش حالة بطالة منذ ما يزيد عن خمس سنوات لكنها تستهلك يوميا مشروب الجعة مع رفاقها في عدد من الحانات فبالنسبة لها هذا الملاذ “حل للهرب من الوحدة واليأس”.
حانات المترفهين
لا يقتصر ارتياد الحانات في تونس على محدودي الدخل فالكثيرون هنا من الطبقات المرفهة وميسوري الحال يجدون ضالتهم في ارتياد الحانات الباهظة الثمن التي تشبه حانات باريس.
بعد تخرجه من الجامعة أصبح غازي وهو أصيل محافظة صفاقس (بوسط البلاد) تاجرا يشتغل باستمرار ويجني كثيرا من المال لذلك أصبح وتيرة سهراته في الحانات الفاخرة تتزايد هناك حيث “يمزح ويتسلى مع رفاقه”.
يقول لمراسلون “شرب الجعة أصبح أمرا ضروريا في حياتي. أنا واصدقائي لسنا من رواد المقاهي لذلك نجتمع كل مرة في أحد الحانات الراقية للانتشاء بالجعة وتبادل الحديث حول اهتمامات مشتركة وحول السياسة”.
في سهراتهم وسط إيقاع الموسيقى الالكترونية الصاخبة يتناول أصدقاء غازي الأوضاع في البلاد بسخرية وتهكم فهم يعتبرون السياسيين في تونس غير أكفاء لقيادة بلد أصبح اقتصاده على شفا الانهيار والإفلاس.
وبينما كان يستمر أصدقاء غازي وغيرهم من الزبائن بالانتشاء داخل حانة فندق فخم شيد بشارع محمد الخامس بالعاصمة وباحتساء جعتهم مازال حتى حدود منتصف الليل يتوافد آخرون على الحانة مرتدين أثوابا الممزقة.
تبلغ قارورة الجعة في مثل هذا المكان الفاخر تسعة دنانير (4 دولار) في حين تصل قارورة الخمر إلى 80 دينارا (38 دولار). أما قوارير الويسكي فتتراوح أثمانها بين 250 و500 دينار (120 و250 دولار) للقارورة.
رغم أن الأثمان باهظة يستمتع الجميع هنا بالموسيقى الصاخبة التي تتمايل معها الفتيات وهن يمسكن كؤوس أنواع مختلفة من شراب النبيذ أو الفودكا ويهتفن ويضحكن على نغمات الموسيقى وصرخات رفاقهن.
وحول الدافع الذي يجعل التونسيين يحتلون مراتب متقدمة في استهلاك الجعة والخمور تقول باحثة علم الاجتماع فتحية السعيدي لمراسلون إن الأفراد يلجؤون لمعالجة توتراتهم كل حسب أسلوبه وإمكانياتهم واتجاهاتهم.
وتضيف “نجد عددا من الشباب يلجا لشرب الخمر لمعالجة توتراته والتخفيف من الضغوطات التي يعيشها والبحث عن البهجة مثلما نجد عددا آخر منهم ينكمش على نفسه ويعتكف ويمكن أن يتجه إلى جماعات متطرفة”.