مع مرور كل موكب جنائزي في نهج “باب الجنائز” يصطف التجار والمارة في خشوع أمام المحلات احتراما للميت فيما يكون عبور الجنائز عبر هذا النهج بمثابة الإشهار لمن فارقوا الحياة وخرجوا خروجهم الأخير من المدينة.

لكن رغم كل ما توحيه التسمية من قتامة فباب الجنائز أيضا هو الشريان الحيوي لمدينة كاملة حيث يتوافد عليه الزوار من كل حدب باحثين عن ضالتهم من مختلف السلع التي تخص بها باجة.

مع مرور كل موكب جنائزي في نهج “باب الجنائز” يصطف التجار والمارة في خشوع أمام المحلات احتراما للميت فيما يكون عبور الجنائز عبر هذا النهج بمثابة الإشهار لمن فارقوا الحياة وخرجوا خروجهم الأخير من المدينة.

لكن رغم كل ما توحيه التسمية من قتامة فباب الجنائز أيضا هو الشريان الحيوي لمدينة كاملة حيث يتوافد عليه الزوار من كل حدب باحثين عن ضالتهم من مختلف السلع التي تخص بها باجة.

وتعرف باجة (شمال غربي البلاد) بفلاحتها وبصناعة الأجبان على غرار جبن “سيسيليا” أو حلويات “المخارق” و”الزلابية” الأندلسية الأصل فضلا عن بقية المنتجات المحلية من خضر وغلال ولحوم بمختلف أصنافها.

“وباب الجنائز” هو أحد الأبواب السبعة المحيطة بالمدينة العتيقة بباجة لكنه الأهم اقتصاديا واجتماعيا فضلا عن أنه يختزل تاريخ المدينة بكاملها.

حركية تجارية

فالنهج الذي يمتد على قرابة الكيلومتر يضم ما لا يقل عن 100 محل تنشط جلها في بيع الخضر والغلال واللحوم زيادة على الأجبان والحلويات “المخارق” و”الزلابية” التي يقبل عليها التونسيون من كل محافظات البلاد.

ويعد هذا النهج الأكثر شهرة في باجة نظرا لأهمية حركيته التجارية وعدد مواطن الشغل التي يوفرها سواء لأصحاب الدكاكين أو الباعة العرضيين ممن يغيرون أنشطتهم حسب المواسم ما يجعل المكان نابضا بالحياة على مدار السنة على خلاف ما تحمله تسميته من معاني الموت.

يقول رئيس جمعية أحباء باجة حاتم القلعي لمراسلون إن “باب الجنائز” يحمل هذه التسمية منذ 935 ميلادي وهو تاريخ تحول أقدم كنيسة في المدينة إلى الجامع الكبير حيث تعوّد أهل المدينة منذ ذلك التاريخ الدخول من أي باب من أبواب المدينة للصلاة على الأموات في المسجد الكبير ليكون خروجهم من باب واحد وهو “باب الجنائز”.

ويوضح أن العبور الموحد للجنائز من ذلك النهج كان بمثابة طريقة للإعلان عن الموتى من أبناء المدينة وهو ما يجعل معرفة هوية الميت مناسبة لتقديم التعازي أو تقديم المساعدة للمحتاجين من عائلات الفقيد.

ويقول القلعي لمراسلون إن مرور الجنائز عبر مسلك موحد يعج بالتجار والمتسوقين يكون مناسبة لطلب الرحمة للميت وتذكير الأحياء بقيمة عمل الخير قبل مغادرة الحياة “فكل الذين مروا في نهاية حياتهم محمولين على الأكتاف مروا مئات المرات عبر المسلك ذاته لقضاء حوائجهم”.

والأسواق في أنهج مدينة باجة هي عبارة  شبكة من الشوارع الضيقة التي تصطف على جانبيها المحلات التجارية من التجار والحرفيين مجمعة حسب التخصص.

ويشكل باب الجنائز نقطة التقاء كل هذه الأنهج حيث يوجد تجار الفواكه والخضروات وصناع الجبن التقليدي والجزارين وبائعي الأسماك.

أما المتاجر النظيفة مثل تجار القماش والعطور والتوابل وباعة الكتب والتجار الصوف فتقع بالقرب من المسجد الكبير لأنها لا تمثل أي إزعاج للمصلين.

تاريخ عريق

وتختزل الأنشطة التجارية في هذا النهج ذاكرة حضارات متنوعة قدمت إلى مدينة باجة وتركت بصماتها في السوق. فمحلات الأجبان التقليدية ومشتقاتها هي في الأصل امتداد لمحلات الإيطاليين الذين استوطنوا في المدينة وحملوا معهم صناعة أنواع رفيعة من الأجبان المحلية وجلبوا لها معهم أغناما من سلالة فريدة تسمّى “صقلي سردي”.

ولا تزال “حارة الإيطاليين” وسط مدينة باجة شاهدة على أيام الإيطاليين في المدينة التي تعتبر المزود الأول للحبوب والمنتوجات الزراعية في تونس.

وفي فترات متأخرة من مرحلة الاستعمار الفرنسي وإثر استقلال تونس سنة 1956 غادر أغلب الإيطاليين البلاد، إلا أن سكان باجة حافظوا على صناعة الأجبان وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى باتت مادة غذائية تؤثث أطباقهم اليومية وتحتل محلاتها حيزا هاما من سوق باب الجنائز.

ويسجل باب الجنائز أيضا قصة عبور الأندلسيين والأتراك من المدنية فمحلات الزلابية التي تتكاثر في السوق العتيقة في شهر رمضان هي من أصل أندلسي أتى بها الأندلسيون من بلادهم وأصبحوا يتفنون في صنعها بمجرد استقرارهم بولاية باجة لتصبح فيما بعد خاصية من خاصيات الجهة.

في المقابل دخلت صناعة حلويات “المخارق” و”الزلابية” إلى المدينة عن طريق جندي تركي عاش في “باجة” وخلال إقامته بها التقى بإحدى العائلات وأعد “المخارق” و”الزلابية” فاستحسنها أفراد العائلة وأرادوا تعلمها حتى تمكنوا من إتقانها وتوارثوها لأكثر من 150 عاما.