“خرجت دون إرادتي.. الحكومة أصدرت العفو على السجناء في سنة 2011، فخرجت من السجن سعيدة، ألا يحق لي أن أمارس حياتي؟ لو كنت أتخيل أنني سأعود مجدداً للعيش بين هذه القضبان لما كنت تزوجت وأنجبت طفلتي” بهذا بادرتنا فاطمة، السيدة الأربعينية المسجونة في سجن “الجديدة” للنساء بطرابلس.

فاطمة كانت تقضي أيامها في السجن بتهمة قتل زوجها السابق (وهو ابن عمها) الذي قالت إنه كان يعنفها ويخونها. لكنها استفادت من العفو العام الذي أصدره القذافي على كافة المساجين إبان فوضى عام 2011، فخرجت قبل أن يصدر عليها حكم من المحكمة وعادت لتمارس حياتها وشاء القدر أن تتزوج ثانية.

إلا أن حقد أولياء دم زوجها (أبناء عمومتها) عليها لم يهدأ، فتمكنوا من خداعها واستدراجها خارج منزل والدها ليتم القبض عليها وتسلم إلى النيابة مجدداً وهي حامل بتهمة قتل زوجها السابق، حسب قولها.

وبانتظار حكم المحكمة الذي يفترض أن يصدر في شهر حزيران/يونيو القادم أنجبت فاطمة طفلتها “حلا” في السجن، وربتها بين رحمة السجانات وعذابات المحكوم عليهن من رفيقات العالم المنسي.

أمهات عازبات

الذي يميز فاطمة في سجن النساء أنها الوالدة الوحيدة لطفلة تندرج تحت مسمى “طفل شرعي”. وحسب إدارة السجن فإن عدد الأمهات السجينات هو خمس أمهات حاضنات لأطفال إناث، ويبلغ عمر أكبر الأطفال سناً وهي حلا سنة وأربعة أشهر، وأصغرهن وهي مرام طفلة الشهر التي حملت بها والدتها ذات الواحد والعشرين سنة خارج إطار الزواج.

بين بقية الأمهات العزباوات تجلس عاملة منزل أثيوبية الجنسية في بداية العشرينات من عمرها، تعرضت للاغتصاب في منزل العائلة التي عملت لديها، والآن تحاكم بتهمة “المواقعة” وإنجاب طفل غير شرعي.

وكذلك تجلس سعاد، والدة مرام التي تحاكم بنفس التهمة أيضاً، وتنتظر أن تفرج إحدى الكتائب المسلحة في طرابلس (كتيبة اغنيوة) عن والد طفلتها الذي وعدها بالزواج، حتى تنحل قضيتها وتسقط عنها تهمة “المواقعة” حسب القانون.

وبينما كانت مراسلة الموقع تراقب ملامح السجينات، لم تتمكن من تجاهل مدى تمسكهن بقوة بطفلاتهن وشعورهن الواضح بأن هناك ضيفاً ثقيلاً جاء ليذكرهن بمخاوفهن على مصير الرضيعات فيما بعد.

مصير الأطفال

العقيد ن مديرة السجن (فضلت عدم نشر اسمها) قالت إنه حسب قانون السجون في ليبيا فإن مدة احتضان الأمهات لأطفالهن في السجن تصل لعمر السنتين فقط، وبعد هذا السن يفصل الطفل عن والدته.

ومن موقعها وخبرتها في هذا المجال لا تحبذ مديرة السجن فكرة تحويل الأطفال لدور رعاية الأيتام، لأن الطفل الذي يعيش حياة دور الرعاية حسب قولها “يبقى موصوماً طول عمره بأنه طفل رعاية، من المؤسف للغاية أنه لا توجد حضانة تتبع السجن ليفصل فيها أطفال السجينات” تقول.

بعض الأطفال حسب العقيد يكونون محظوظين حيث تستلمهم عائلة السجينة بعد انتهاء مدة الحضانة وتتكفل برعايتهم، وفي حالات أخرى تقوم السجينة بملء إرادتها بتسليمه لعائلة تكفله، وتنهي الوالدة صلتها بالطفل بموجب عقد تنازل بينها وبين الأسرة الراعية، “وفي الحالتين لا تتمكن الوالدة المحكومة من رؤية طفلها مجدداً”.

هذه الاحتمالات جميعها ترعب فاطمة التي لو صدر حكم بحقها وثبت عليها الجرم فقد تواجه عقوبة مدتها خمس عشرة سنة حسب مديرة السجن، وهي ترفض الإجابة على هذا السؤال بل وعندما كرر “مراسلون” سؤالها عما تفكر به لمستقبل طفلتها انهارت بالبكاء.

مدة الحضانة

لعل أكبر مشكلة تعاني منها السجينات هي طول مدة التقاضي. فبعضهن يبقين لسنوات داخل السجون بانتظار حكم المحكمة، مثل فاطمة التي قضت أكثر من عام ونصف الآن بانتظار هذا الحكم.

خلال مدة الحضانة تتكفل إدارة الرعاية الصحية بمتابعة الأطفال صحياً، بينما تتكفل إدارة السجن بتوفير مستلزمات وأدوية ولعب الأطفال، وإن كان ذلك عن طريق “العلاقات الشخصية” حسب مديرة السجن.

“مراسلون” توجه رفقة العقيد إلى عيادة السجن فوجدناها خالية إلا من ضابط واحد أسرع الخطى حين رآنا وأخذ يبرر غياب الممرضات بأنهن “خرجن قبل قليل”، بينما الأطباء أغلبهم موظفون متعاونون في الدولة كغيرهم لا يتقاضون الرواتب وملو تقديم خدماتهم مجاناً. مكتب الأخصائيات الاجتماعيات كان أيضاً مقفلاً، وعلقت العقيد ن بأنهن “غير منضبطات في العمل”.

طوال تلك الجولة كانت علاقة واضحة من المودة واللطف المتبادل تظهر بين السجانة وسجيناتها اللاتي يقبعن بضجر بين تلك الجدران الباهتة. وكمديرة لسجن النساء في مدينة طرابلس فكل ما تتمناه العقيد ن هو إصلاح البنية التحتية للمبني ذو اللون المقشر الباهت الذي يجلب مزيداً من الاكتئاب، وتوفير غرفة خاصة للأطفال تحتوي على لعب وتسالي تفيد ترعرعهم صحياً ونفسياً.

مستقبل مجهول 

مجمل عدد السجينات في الوقت الحالي بسجن الجديدة للنساء 52 نزيلة البعض منهن على ذمة قضايا لم يفصل فيها بعد، منها الاتجار بالجسد وبيع وتعاطي المخدرات، وبالطبع قضايا “المواقعة” التي تسجن فيها المرأة فقط دون شريكها الذي في أغلب الحالات يتمكن من الهرب ويجد الحماية في مجتمعه، وخمس نزيلات أمهات.

تعبر العقيد ن لـ”مراسلون” عن إحباطها من عدم الاهتمام بهؤلاء النساء ووضع برامج تكفل لهن ولأطفالهن حياة كريمة بعد انقضاء فترة العقوبة، وتتحسر في هذا الإطار على عدم تفعيل الدولة لمؤسسة “بيت حماية المرأة” التي كانت تعمل أيام النظام السابق وكانت بمثابة “حضن” يتكفل بهؤلاء المسجونات بعد قضائهن فترة محكوميتهن يؤمن لهن العمل ومصادر دخل قانونية ويعنى بمشاكلهن.

“أغلبهن يتوجهن للدعارة نتيجة نبذ المجتمع وأهاليهن وتعرضهن للبطالة، بعض النزيلات هن فتيات من أسر صالحة وللأسف تدخل الفتاة للسجن بقضية زنا نتيجة علاقة عاطفية، وهذا ليس علاجاً لها بل بالعكس في السجن تنخرط مع محترفات دعارة لتتعلم منهن أساليبهن وفي الأغلب تتجه للمخدرات وبهذا الشكل تنتهي حياة الواحدة منهن بشكل نهائي” حسب مديرة السجن.

هذه الحالة عامة وليست مقتصرة على النساء، حسب قول الناطق الرسمي بجهاز الشرطة القضائية العقيد أحمد بو كراع، الذي تابع شارحاً “هناك نظم كانت مفعلة في السابق تحمي السجناء من الجنسين وترعاهم من الانحدار مجدداَ نحو الهاوية بعد استكمالهم لعقوبتهم”.

من هذه النظم ما كان ينفذ من قبل إدارة الشرطة القضائية وتحت إشراف وزارة التكوين، وعلى أساسه يتم تدريب النزيل صاحب العقوبة المطولة على مهنة حرفية، وفي نهاية مدة التدريب يستلم شهادة معتمدة من طرف وزارة التكوين وليس إدارة السجون، وتكفل الوزارة للسجين المتدرب وظيفة حسب مهنته يستلمها فور خروجه.

أما مع الظروف الحالية وامتداد الأزمة السياسية لتطال الحياة بكل تفاصيلها يقول بو كراع، فمن الطبيعي أن نشهد عودة المحكومين من الجنسين إلى السجن بذات الجرائم السابقة.