على رأسها خوذتها، وعلى عينها نظارة شمسية، انطلقت “كولين” الطالبة بكلية العلوم السياسية في جامعة فرنسا، والوافدة إلى المعهد الفرنسي بالقاهرة لتعلم اللغة العربية، على متن دراجة بخارية ماركة “جاوا” موديل الستينات، خلفها زميلتها في نفس الكلية “كميل” إلى منطقة عين السخنة. كان ذلك في صباح آواخر أيام شهر فبراير الماضي. لم يكن يشغل بالها كثيرًا ما جرى من عدة أيام لجوليو ريجيني.

على رأسها خوذتها، وعلى عينها نظارة شمسية، انطلقت “كولين” الطالبة بكلية العلوم السياسية في جامعة فرنسا، والوافدة إلى المعهد الفرنسي بالقاهرة لتعلم اللغة العربية، على متن دراجة بخارية ماركة “جاوا” موديل الستينات، خلفها زميلتها في نفس الكلية “كميل” إلى منطقة عين السخنة. كان ذلك في صباح آواخر أيام شهر فبراير الماضي. لم يكن يشغل بالها كثيرًا ما جرى من عدة أيام لجوليو ريجيني.

كان ريجيني، طالب الدكتوراه الإيطالي بجامعة كامبردج المتواجد في مصر لإجراء بحث ميداني عن الحريات النقابية والنقابات المستقلة، قد اختفى في ٢٥ يناير الماضي في الذكرى الخامسة لثورة يناير، وفي ٣ فبراير عُثر على جثته في احدى المصارف بجانب طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي مشوهة وعليها آثار تعذيب مروعة مع مؤشرات تشير إلى تورط أجهزة أمنية في الحادث، وهو ما نفته وزارة الداخلية بشدة، ورجحت أن يكون السبب هو السرقة أو الانتقام.  

تلك كانت المرة الأولى التي تسافر فيها كولين مستقلة دراجة بخارية، بل إنها تعلمت ركوب الدراجات البخارية هنا في مصر. ”لم أفكر كثيرًا في الأمر.“ تقول كولين لــ ”مراسلون “ وتضيف ”ربما لأننا هنا لتعلم اللغة العربية، بينما كان بحث ريجيني متعلق بالسياسة، واليسار والنقابات. “.

“يمارسون حياتهم”

يدرس في مصر، في الجامعات الحكومية والخاصة، أكثر من ٧٠ ألف طالب من مختلف دول العالم، و”يمارسون حياتهم بمنتهى الحرية من خلال إحساس بالأمن “، وذلك وفق بيان وزارة التعليم العالي على خلفية مقتل ريجيني.

في نفس الوقت الذي كانت تُعد فيه كولين العدة لرحلتها، أي بعد أيام من العثور على جثة ريجيني، كتبت الصحفية إيزابل إيسترمن في مقالة لها على موقع مدى مصر قالت فيه: ”أصبحت أتلعثم مؤخرًا، ولا أستطيع إتمام الجُملة، كأنني أُصبت بشد عضلي. يجمدني الخوف إن سمعت طرقًا غير متوقع على الباب.“

أثار خبر موت ريجيني صدمة كبيرة في الأوساط الدولية بشكل عام وفي الأوساط الأكاديمية العالمية بشكل خاص، ومَثّل صدمة للأجانب في مصر، خاصة وأن المتعارف عليه أن الجنسيات الأجنبية تُعامل من قِبل السلطات المصرية بشكل أفضل، وكان مبعث لمخاوف الباحثين والأكاديمين الأجانب في مصر الذين استقبلوا الخبر في صدمة.

”وصلني خبر مقتل ريجيني عن طريق صديق إيطالي في مصر سمع الخبر من وكالة أنباء إيطالية. “ تقول “تيريسا”، باحثة إيطالية أكاديمية في قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية بجامعة أوسلو، وتضيف ”كنتُ قلقة بالفعل، فوفاة جوليو كانت مثل جرس إنذار وصدمة من نواح كثيرة. فلقد شعرت بالخطر ليس فقط كباحثة، وليس فقط كأجنبية، ولكن كإنسانة تعيش في بلد انعدم فيه الأمن والعدالة.“

الجميع؟ أم لا أحد؟

”كنت مذهولة أكثر من أي شيء آخر. خاصة بعد معرفة ما جرى له دون معرفة السبب.“ تقول باحثة إيطالية أخرى رفضت ذكر اسمها وتضيف ”لم يكن واضحًا من الذي يجب عليه أن يخاف. الجميع؟ أم لا أحد؟ وأنا هنا أتساءل عن المواطن العادي: ما نوع الكراهية المحتملة للأجانب التي قد يطلقه هذا السياق العام الذي يحكمه الخوف؟“.

كانت السلطات قد احتجزت عاطف بطرس العطار، أكاديمي مصري يحمل الجنسية الألمانية، في مطار القاهرة، أثناء قدومه إلى مصر، وقد أبلغ اﻷمن الوطني مسئولي السفارة الألمانية أن عاطف ممنوع من دخول مصر مدى الحياة.

قبلها بعام تقريبًا كانت السلطات المصرية قد منعت الأكاديمية التونسية آمال قرامي، ومن قبلها الباحثة الأمريكية ميشيل دن من دخول مصر.

“كنت أعرف أنها مغامرة”

في تلك الأثناء كانت “كولين” قد اشتركت في مدرسة لتعليم ركوب الدراجات البخارية بمنطقة المعادي جنوب القاهرة بعد أن شغل تفكيرها فكرة قيادة دراجة بخارية لأول مرة والذهاب بها لأماكن تحلم أن تذهب لها بمفردها. ”كنت إذا أردتُ أن أذهب لمكان ما لا يتركني أصدقائي المصريين أن أذهب بمفردي خوفًا علي، أو لأنه لا يمكن لبنت الذهاب هناك بمفردها. “ تقول كولين.

بعد أن انتهت من دروس تعلم ركوب الدراجات البخارية، وضعت “كولين” على موقع ”كايرو سكولر“ إعلانًا تطلب فيه استئجار دراجة بخارية. الوحيد الذي استجاب لإعلانها وقدم لها سعرًا مناسبًا شخص يملك دراجة بخارية من طراز ”جاوا “ موديل الستينات، من النوع الذي يدار بشكل يدوي، مما يتطلب مجهود كبير لقيادتها.

حددت واجهتها، ستقصد منطقة العين السخنة، أقرب منتجعات البحر الأحمر إلي مدينة القاهرة، ”إنها ليست بعيدة، تقريبًا ٥٥ كيلو، وعلى البحر، ويمكن قضاء وقت لطيف هناك“، تقول “كولين” التي أقنعت صديقتها وزميلتها في الجامعة “كميل” لمصاحبتها في رحلتها. تعلّق كميل: ”كنت أعرف أنها مغامرة لكنني كنتُ أشعر أنها بوسعها عمل ذلك “.

الحكومة ليست وحدها القاسية

في٢٤ مارس الماضي قالت وزارة الداخلية المصرية أنها استهدفت تشكيلا عصابيًّا تخصص في ”انتحال صفة ضباط شرطة واختطاف الأجانب وسرقتهم بالإكراه “، وهو ما أدى لمصرع كافة عناصر التشكيل البالغ عددهم خمسة بعد تبادل إطلاق النار، وكان من بين ما عثر عليه في منزل أحد المقتولين مُتعلقات شخصية لريجيني، إلا أنها عادت وأكدت عدم جزمها بأن تكون العصابة مسؤولة عن قتله.

وفي أعقاب ذلك صرح مصدر في مكتب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينسي لروتيرز ”لا تزال الحكومة الإيطالية مصرة على أن يسلط التحقيق الجاري الضوء بشكل كامل وشامل دون ظلال من الشك حول موت الباحث الإيطالي الشاب“.

”الحكومة ليست وحدها القاسية والفاسدة التي تفتقر إلى أي نوع من المصداقية، بل في الحقيقة إن أكثر ما يخيفني هو أن غالبية الناس تبطن نفس الموقف المريب والتواق للانتقام الذي يتبناه النظام.“ تقول “تيريسا” وتضيف ” بالطبع هناك العديد من الاستثناءات.“

مرت رحلة الذهاب إلى العين السخنة بسلام لم تقابل الشابتان كثيرًا من الصعاب، قابلتهما نقطتي تفتيش، استوقفتهما الأولى واطلع الضابط على رخصة الدراجة، في حين تركتهما الثانية يمران دون إيقاف. وصلا إلى شاطئ أحد المنتجعات واستطاعا الاتفاق على إقامة خيمتهما وقضاء الليلة هناك. إلا أن عودتهما لم تكن بنفس السلاسة.

ففي منتصف طريق العودة انزلقت الدراجة عند منعطف محطة للبنزين وسقطت الفتاتان وانعوجت العجلة الأمامية للدراجة البخارية وتعذر الرجوع بها إلى القاهرة، وكانت الشمس قد أوشكت على المغيب. ”أن تغرب الشمس وتظلم الدنيا ونحن في منتصف الصحراء فهذا يعني مزيد من المتاعب“ تقول “كميل”.

وبالفعل تمكنت الفتاتان من إيقاف إحدى المقطورات، والاتفاق مع سائقها على نقلهما مع الدراجة البخارية إلى القاهرة، واتصلت كولين بصاحب الدراجة الذي انتظرهما عند مدخل المدينة.  

توقفت عن كتابة المقالات

”فكرت هل يجب عليّا أن استمر في بحثي أم لا، رغم أنه لا علاقة له بالسياسة.“ تقول الباحثة التي رفضت ذكر اسمها، وتضيف ”في ظل المناخ الحالي، لست متأكدة تماما ما الذي يعتبر موضوعًا حساسا وما الذي لا يُعتبر كذلك.“

”أوصاني الكثيرون بالمغادرة، لكنني قررت البقاء ومواصلة عملي، بعد اتخاذ المزيد من الاحتياطات.“ تقول “تيريسا” وتضيف ”تجنبت القيام بمقابلات في الأماكن العامة، توقفت عن كتابة المقالات باسمي ووضع صورتي الشخصية، تصرفت بحرص تحسبا لربما كان هاتفي وحسابي على الفيس بوك مراقبين. ومع ذلك، واصلت استخدام حسابي على الفيس بوك لتبادل الأخبار مع أصدقائي وزملائي في مختلف أنحاء العالم. الحاجة إلى التواصل وشجب ما يحدث كان بالنسبة لي أقوى من الخوف. “

في المستقبل يكمن مصدر الخوف

هل كانت “كولين” متهورة أم مجنونة؟ أم أنها كانت تقاوم خوفها بطريقتها الخاصة. يقول ميلان كونديرا في روايته ”البطء“  ”إن الممتطي لدراجته البخارية لا يمكنه أن يركز إلا على الثانية الزمنية لانطلاقه، متشبثًا بومضة من الزمن مفصولة عن الماضي والمستقبل، منتزعًا من اتصال الزمن، يكون خارج الزمن. بانطلاقه، يكف عن الخوف، لأن في المستقبل يكمن مصدر الخوف، ومن تحرر من المستقبل لا يبقى لديه ما يخشاه.“