في مرفأ باب البحر بطرابلس الذي هجره معظم بحارته لتملأ مكانهم القطط، رأيته مسترخياً بجانب فلوكته “زهرة” التي تحمل اسم زوجته كما أخبرني لاحقاً. الرايس عبد الله الزروق، استقبلني بابتسامة ترحاب خرجت من بين شفتين مزرقتين من كثر التدخين، إلا أنهما مستعدتان للبوح بالكثير عن عالم البحار الشيق.
المرفأ الهادئ للغاية لا زال بإمكانك أن ترى فيه بعض الرجال الذين فروا من ضجيج الحياة إلى البحر، يقدر عددهم بحوالي عشر صيادين محترفين لا تجمعهم قواسم مشتركة واضحة، تراهم هادئين يتبادلون الأحاديث الممتعة، رغم ملوحة حياتهم، وصراعهم المكلل بالخسارات مع الحظ والموج الصاخب.
في مرفأ باب البحر بطرابلس الذي هجره معظم بحارته لتملأ مكانهم القطط، رأيته مسترخياً بجانب فلوكته “زهرة” التي تحمل اسم زوجته كما أخبرني لاحقاً. الرايس عبد الله الزروق، استقبلني بابتسامة ترحاب خرجت من بين شفتين مزرقتين من كثر التدخين، إلا أنهما مستعدتان للبوح بالكثير عن عالم البحار الشيق.
المرفأ الهادئ للغاية لا زال بإمكانك أن ترى فيه بعض الرجال الذين فروا من ضجيج الحياة إلى البحر، يقدر عددهم بحوالي عشر صيادين محترفين لا تجمعهم قواسم مشتركة واضحة، تراهم هادئين يتبادلون الأحاديث الممتعة، رغم ملوحة حياتهم، وصراعهم المكلل بالخسارات مع الحظ والموج الصاخب.
حرفة صعبة
“لن أصطاد اليوم فالجو غير مناسب” يقول الريس الزروق متذكراً بحزن كيف قضى اثنان من الصيادين المبتدئين غرقاً في اليوم السابق للقائي به، يستطرد “يحسبون حرفة الصيد سهلة، لم يتعلموا ركوب الموج مع صياد خبير، طبيعي أن يغلبهم البحر”.
المثير أن الصياد الأربعيني يعد أصغر صياد بينهم، ورغم كونه متخرجاً من الجامعة إلا أنه اختار أن يمتهن مهنة الحظ، “لم أخطط يوماً لامتهان الصيد، لكن اعتدت العمل في سن صغيرة، وفكرة جلوسي خلف مكتب تشعرني بالاشمئزاز، البحر سبق وان اختارني، وأنا سخرت نفسي للمغامرة.”
يقول الرايس في معرض روايته عن بداياته مع الصيد “والدي صياد والابن يتعلم حرفة أهله”، حيث كان يرافق والده في عمله إلى أن أصبح مدخناً، ولأنه كان يخجل التدخين أمام والده ترك العمل معه وتوجه للتحويت – الصيد – مع بحارة من “أصحاب الصنعة”.
الحبيبة والرزق
منتشين بالملح العالق في الهواء نستكشف المكان المكتظ بالقوارب الراسية، والتي تحمل جميعاً أسماء نساء، فيما يبدو أنه عرف لدى الصيادين إطلاق أسماء حبيباتهم أو أمهاتهم على قوارب الصيد التي تعد مصدر رزقهم.
القوارب الراسية فوق الماء الساكن دون حراك لا تعكر صفو طيور النورس التي تزين المشهد الأخاذ، فيما سرت إلى جانب الرايس الزروق محتضناً قهوته وينحني ليداعب قطة ذهبية، ما جعله يبدو لي قصير القامة نسبياً بملامح لفعتها أشعة الشمس.
لا يشتكي الزروق من ظروفه المعيشية، بل يحكي بحماس كيف أن عملهم موسمي يزدهر في الشتاء حيث تأتي الأسماك إلى المتوسط طلباً للدفء، ومما يجمعه الصيادون شتاءً يعيشون بقية العام.
لكن الصياد الذي ولد وتربي في أزقة مدينة طرابلس القديمة يكشف أنه لا ينوي زيادة عدد أفراد عائلته المكونة من طفلتين إلى جانبه وزوجته، ويرجع ذلك للوضع غير المستقر للبلاد، وخاصة من الناحية الأمنية.
بالإضافة إلى عمله الشتوي في الصيد هو يعمل خلال فصل الصيف مدرباً على الغوص، كما يتعاون مع عدة نوادٍ مستقلة تعلم حرفة الصيد للهواة، وهذا العمل يؤمن له مورد دخل إضافي، لكن لا يمنعه مثل كثير من الليبيين من الحلم بالهجرة مع عائلته إلى الشمال.
الوضع يصعب
نمر أثناء سيرنا أمام بعض المراكب الكبيرة نسبيا، المعروفة محلياً باسم جرافات الصيد، وهي مملوكة للدولة ومركونة في مكانها حتى يكاد يلتهمها الصدأ، يتساءل الرايس “هذه الجرافات بدلاً من ركنها، لماذا لا تباع للبحارة بالتقسيط لصيد سمك التونة، لم نستفد من مشاريع النظام السابق الفاسدة، والآن نحن منسيون في هذه المنظومة، بالاسم نملك نقابة صيادين”.
يتذكر الرايس بحسرة كيف كانوا يتشاركون المرفأ في السابق مع البحارة المصريين، الذين كانوا يهتمون خصيصاً بصيد سمك السردين، فيما لا يقبل الليبيون سابقاً على هذا النوع من السمك بل يستعملونه طعماً لشباكهم، “الآن حتى السردين صار مكلفاً جداً” يقول البحار.
بلطف وابتسامة لا تفارق وجنتيه، يستمر الريس عبد الله قائلاً “لا زلنا نصطاد بالطرق القديمة التقليدية، شباك وبرنغليات (وهي عبارة عن خيط حرير طويل جداً تعلق فيه سنارات معدنية مطعمة بسمكة سردين لكل منها، يتم جمعه في وعاء بلاستيكي ضخم ومن ثم يرمى في البحر ويصطاد كمية كبيرة من الأسماك).
هذه الطرق التقليدية حسب الصيادين تعد أكثر أمناً على الشواطئ والسمك، رغم حب الهواة لاستخدام الجيلاطينة (هي نوع من المتفجرات المحلية، تستخدم في الصيد وتتسبب في حرق مساحات كبيرة من الأرض وهروب السمك).
“لحقنا ضرر كبير نتيجة استخدام الهواة للجيلاطينة إلا أننا لازلنا نعتاش على الصيد”، تبرق عيناه ويكمل “في بحرنا أسماك كثيرة في انتظار شباكنا”.
عيشة البحارة
اقتربنا في سيرنا من مكان يجتمع فيه قلة من الصيادين يجهزون شباكهم، توجست في داخلي من أن يستقبلوني بفظاظة كوني صحفية وفتاة، متصورة أن عالم البحارة الموشوم بخشونة الملح لابد أن يكون فظاً، ولكن على عكس توقعاني كانوا يبتسمون لي في ود دون أن يلهي ذلك أيديهم التي تتشارك بمهارة في تطعيم سلك صيد طويل جداً.
هكذا طيلة ساعتين، والقطط الناعسة تؤنس وجودهم، يجهزون البرنغليات، ويتنفسون الهواء المالح، يتأملهم الزروق ويعلق “ليست كل معاركنا مع الموج الصاخب رابحة، أحياناً نعود دون سمك ونضطر لرمي الطعم للقطط فنخسر الكثير، كل عدتنا صارت تنهك الجيب، مجرد التفكير في استبدال أو صيانة المحرك تنهك العقل، لا حياة لمن تنادي، المنظومة فاسدة، ونحن نستمر في الحياة”.
هكذا كان.. متماهياً مع واقعه غارقاً في تفاصيله، لا يعير اهتماماً لما يحدث خارج دائرة حياته مع البحر والبحارة، إلا بمقدار ما ينعكس ذلك إيجاباً أو سلباً على عمله، ولم يفته طبعاً أن يذكرني بالأغنية الليبية الشهيرة “يا مصعب عيشة البحارة.. بين الشبكة واللمبارة (هي مصباح يستخدمه الصيادون أثناء الصيد ليلاً)”، في إشارة منه إلى المعاناة الأزلية للبحار في عشق مهنته.
ازدياد حركة المشترين في “سوق الحوت” أعلن موعد عودتي إلى اليابسة، وانتهاء مغامرتي الهادئة رفقة البحارة، ودعتهم وعيناي تتأملان قطاً يحاول القفز للبحر حيث يقبع طير نورس يجيد استفزازه، بينما البحارة يمنعونه.