غرق حوالي 800 مهاجر أثناء عبور البحر المتوسط من ليبيا إلى أوروبا في نيسان/أبريل الماضي كان خبرا صدم العالم، ولكن لعل من قام بتهريبهم لم يهتز له طرف ما دام الغارقون في المتوسط قد أغرقوه بالمال.
هذا العدد يعتبر بسيطا أمام الأعداد التي يتم رصّها في قوارب الموت في موسم الهجرة غير الشرعية الذي يبدأ في عادة من تموز/يوليو من كل عام ويستمر حتى نهاية أيلول/سبتمبر، أو ما يُسمى عند المهربين بـ”موسم السردين” حيث يكون فيه البحر هادئاً ودافئاً.
مكسب خيالي
غرق حوالي 800 مهاجر أثناء عبور البحر المتوسط من ليبيا إلى أوروبا في نيسان/أبريل الماضي كان خبرا صدم العالم، ولكن لعل من قام بتهريبهم لم يهتز له طرف ما دام الغارقون في المتوسط قد أغرقوه بالمال.
هذا العدد يعتبر بسيطا أمام الأعداد التي يتم رصّها في قوارب الموت في موسم الهجرة غير الشرعية الذي يبدأ في عادة من تموز/يوليو من كل عام ويستمر حتى نهاية أيلول/سبتمبر، أو ما يُسمى عند المهربين بـ”موسم السردين” حيث يكون فيه البحر هادئاً ودافئاً.
مكسب خيالي
(م) طالب جامعي في مقتبل العشرينيات من عمره تحول إلى سمسار بشر يدير تجارته بالهاتف من مدينة طرابلس، تواصل “مراسلون” معه عن طريق أحد المقربين منه، وتحدث لنا بشرط عدم الكشف عن اسمه.
يقول (م) إن العمل في تهريب البشر في قواربه التي تنطلق من شواطئ مدينة زوارة يوفر له باب رزق ممتاز، إذ يصل مكسبه عن العملية الواحدة إلى 150 ألف دوﻻر.
ويعمل لدى (م) العديد من المساعدين، منهم مراهقون يرغبون في الاقتداء به والتحول لسماسرة معروفين مثله، ومنهم متزوجون أرباب أسر، وكلهم تتحسن ظروفهم بتحسن سوق تهريب البشر وتتدهور بتدهوره.
ربح وعنصرية
رغم مكاسب (م) من تهريب البشر إﻻ أن نظرته لهم ﻻ تخلو من العنصرية، كما أن تهريبهم ممزوج برغبة في التخلص منهم. إذ يتحدث (م) عنهم بازدراء قائلاً “أكره هؤلاء السود الأفارقة، فهم لا يأتوننا إلا بالأمراض، ووجودهم بيننا جداً مقيت”.
وتابع (م) وكأنه يتحدث عن تجارة أغنام أن أسعار تهريب البشر يكون حسب الجنس واللون، والربح الأكبر في تهجير السوريين، إذ يجني 1000 يورو عن كل رجل و1200 يورو عن كل أنثى.
حتى الأطفال لهم سعرهم إذ يكون ثمن تهريب الطفل 900 يورو لأنه “لا يشغل مساحة كبيرة في القارب”، “أما فيما يتعلق بالسود فيكون السعر ذاته لكن بالدولار”،يقول (م).
ويشير (م) إلى أن عمليات التهريب معروفة لأهالي زوارة، “هذه تجارتنا الداخلية في مدينة زوارة ومن خلالها تمكن الأهالي من دعم تجارة الصيد والتزود بالسلاح وشراء المولدات الكهربائية”، وهو ما يدفع الكثيرين منهم للصمت بحسب قوله.
ممرات مقابل المال
أوضح (م) أن مراحل عملية التهريب تبدأ من تجميع المهاجرين في “حظائر” سرية حتى يبلغ عددهم الرقم المطلوب بحسب حجم المركب، ثم تنطلق رحلتهم على متن جرافة الصيد في البحر والتي تستوعب كأقصى حد 400 شخص. وقال إنه يتسلم رسالة وصولهم بالسلامة من قبل “أعين خفية” في الضفة الأخرى في إيطاليا.
وبعد اقتطاع مصروفات البحار الذي يتعامل معه وهو مغربي الجنسية، وتصل إلى حوالي عشرة آلاف دوﻻر أمريكي يكون مكسب (م) النهائي عن كل عملية 150 ألف دولار.
ويسترسل (م) في الحديث بكل ثقة بأنه لم يتمكن رجال الأمن في عهد القذافي من محاربة تجارتهم، أما اليوم، “فالتفاهم مع رجال الأمن ممكن جداً” بسب قوله، “والعديد منهم يعمل على تأمين ممرات آمنة للمهاجرين مقابل المال”.
أوروبا تشجع التهريب!
اتهام رجال الأمن بتوفير ممرات آمنة لتهريب البشر قادنا للاستفسار عن ذلك من جهة رسمية، فاتصل “مراسلون” بالناطق الرسمي لخفر السواحل الليبية عقيد أيوب قاسم، وبمجرد سؤاله اتهم قاسم منفعلاً السلطات الأوربية بأنها “غير جادة في محاربتها للهجرة غير الشرعية، بل تسمح وتشجع على استمرارها، وهذا له علاقة بتمرير قوارب الصيد الجائر في مياهنا الإقليمية وبالأخص من قبل السلطات الإيطالية”.
وأضاف “قاسم” أن هذه التجارة تتزعمها مافيا الاتجار بالبشر التي تمتد سيطرتها لخارج الحدود الليبية، مؤكداً أن مهمة خفر السواحل لا تشمل اليابسة، وإنما هي مهمة وزارة الداخلية “التي تعاني من تزعم أمراء الميلشيات لمنظومتها”.
تهريب بضمير
يتباهى (م) قائلاً إن المهاجرين ذاتهم يثقون في طريقة عمله المتقنة، ويتصلون به من المهجر لتهريب زميل أو عائلة لهم عالقة في ليبيا، لأنهم يعلمون جيداً أن المكسب المادي ليس هو فقط الهدف، بل “ضمان وصولهم سالمين”.
وأضاف أن الإبحار من شواطئ زوارة آمن جداً في المواسم الدافئة من تموز/يوليو إلى أيلول/سبتمبر، مردفاً أن غرق مئات المهاجرين مشكلة يتسبب فيها المهربون غير المحترفين، فهؤلاء “همهم المكسب دون السمعة، فهم يستخدمون قوارب صيد صغيرة غير مهيأة لأعمال التهريب، ويطلقونها في مواسم الموت في أشهر كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير من سواحل عميقة مثل – القاربولي – الزاوية – الخمس – صبراتة”.
وأخيرا تبرأ (م) من المهربين غير المحترفين قائلاً “هؤلاء لن أغامر بإرسال قطة معهم”.
ولعل نتائج عمل المهربين غير المحترفين التي تحدث عنها (م) تظهر جلياً في تصريحات الناطق باسم جمعية الهلال الأحمر – فرع طرابلس – مالك مرسيط، إذ قال إن الجمعية تنتشل العديد من جثث المهاجرين من المياه الليبية بين الفترة والأخرى، وسبق وأن ساهمت في نهاية سنة 2014 باستخراج 107 جثة.
رقيقٌ للبيع
متاعب المهاجرين عبر ليبيا ﻻ تقتصر على رحلة عبور البحر فقط، وإنما حتى على اليابسة، حيث يُحتجز كثيرون منهم في مراكز إيواء.
مصدر موثوق من وزارة الداخلية الليبية أكد لـ”مراسلون” أن سياسة التخلص من تراكم المهاجرين الإفريقيين في مراكز الإيواء تُعد مصدر كسب واتجار جديد بالبشر.
“فمن خلال هذه المراكز صار من السهل تهريب عمالة رخيصة التكلفة تعمل بدون مقابل، حيث يتم استغلال أغلبهم خدماً للمزارع بدون أي أوراق ثبوتية أو شهادات صحية، ولا يُدفع لهم أي مقابل مادي، فالمقابل قبضه القائمون على مراكز الإيواء” يقول المصدر.
ويضيف أنه في السابق كانت هذه المراكز تقوم بفرز المهاجرين من بعد القبض عليهم. “وفي حال امتلاك المهاجر لأوراق ثبوتية تُصدر له شهادة صحية ويُطلق سراحه إذا لم تطالب سفارته بترحيله، أما في حالة عدم امتلاكه لهذه الأوراق يتم إحالته للسجن ليعيش أشهراً في حال يرثى لها إنسانياً، وفي نهاية المطاف تتم المتاجرة بهم على يد أمراء السجون ومن معهم”.
تجارة البشر تتحول في ليبيا إلى تجارة رقيق بامتياز، فلا يهم شيء ما دامت هناك أموال تغص بها الجيوب والحسابات المصرفية، ولم يكن (م) ليتعمق ويكون “معلماً” في هذه “الصنعة” لولا وجود من يساندونه من رجالات الأمن.
خيال أصبح واقعاً بموت 800 روح مهاجر تلحقها أرواح أخَر في مسلسل موت حلقاته مرشحة للاستمرار طويلا.