في الوقت الذي كان فيه جابر الخشناوي (21 عاما) ينفذ هجومه على متحف باردو في العاصمة تونس ويقتل أكثر من 20 سائحا، كان شقيقه مراد يسير في مظاهرة ضد الارهاب تطالب بالكشف عن قتلة شكري بلعيد.

في الوقت الذي كان فيه جابر الخشناوي (21 عاما) ينفذ هجومه على متحف باردو في العاصمة تونس ويقتل أكثر من 20 سائحا، كان شقيقه مراد يسير في مظاهرة ضد الارهاب تطالب بالكشف عن قتلة شكري بلعيد.

جابر الذي فاجأ اخوته ووالديه بمشاركته في تنفيذ عملية المتحف يوم 18 آذار/مارس الماضي كان يتمتع بصورة مختلفة في قريته النائية “ابراهيم الزهار” قبل أن يقرر الذهاب إلى ليبيا ويتدرب على حمل السلاح. فالجميع كان يعرفه تلميذاً خجولاً مواظباً على دروسه في مدرسة القصرين الثانوية ومن ثم في المعهد الثانوي في معتمدية السبيبة، حتى أن أحد أفراد القرية وصف جابر بأنه كان “لا يجرؤ على أن يدوس نملة”.

الطريق إلى القرية

في الطريق إلى منزل العائلة في محافظة القصرين كان مشهد رتل عربات الجيش التونسي ودوريات التفتيش المنتشرة على المفترقات يؤكد أن الحرب على الارهاب متواصلة. ومع ذلك لم تتعرض الحافلة التي أقلّتنا للتوقيف من قبل أيّة دوريّة ولا تفتيش أي مسافر ولا الأمتعة التي كان الركاب يحملونها، وكأن البلد في حالة سلام وليست المتضرر الخامس من الإرهاب في العالم العربي.

تنتهي رحلة الذهاب بعد محطات كثيرة من سبيطلة عاصمة الرومان ومنطلق فتوحات المسلمين الى تونس، ثم الى سبيبة عاصمة التفاح.

وفي عمق الريف على مسافة 22 كيلومترا من سبيبة تنام قرية “ابراهيم الزهار” بين سفحي جبل المغيلة من جانب القيروان وجبل بن حنباس من جانب سليانة. وتبدو القرية هادئة لولا أشغال تعبيد الطريق التي انطلقت مؤخرا.

مع إطلالة منزل “الخشناوي” يطل شيخ مسن تطيل رقبته شاشية تقليدية حمراء (توضع على الرأس)، وبرنس بربري ناصع البياض. هو محمد الخشناوي، جد جابر الخشناوي. كان يقف بقامة فارس ورث الفروسية عن والده أحمد الذي كانت صورته تزين البطاقات والطوابع البريدية قبل أن يمزقها الحفيد.

أشقاء متباينون

يقف الشيخ محمد كعادة أهل المنطقة عندما يستقبلون ضيفا جديدا. يبتسم في وجهنا رغم المرارة ويأمر بإحضار واجب الضيافة من ماء وقهوة ثم يتلهف لسماع آخر الأخبار بأذن أثقلها الزمن صُعقت بعد سماع مقتل حفيده وهو يطيح بضحاياه في متحف باردو. 

عند وصول “مراسلون” الى المنزل، كان البعض في الانتظار يرقب الطريق ويتفحص الوافدين. كنا أكثر حظا من القنوات التلفزية التي لم تحظ بموافقة إجراء الحوارات المصوّرة، فقد أظهرت العائلة حرجا في إظهار صورها.

يفضل الوالد المولدي (في العقد السادس من العمر) أخذ قسط من الراحة بعد طول الاستجوابات والتنقلات وتقبل العزاء واستضافة الصحفيين. يستقبلنا مع ثلاثة من ابنائه المتفاوتين في الأعمار والمستوى العلمي والاهتمامات، وجدناهم بانتظارنا بفضل حصولنا على موعد مسبق.

نلتقي في البداية منذر شقيق جابر، شابّ بملامح وهيأة فلاح بسيط في حديثه وجلوسه. ومن ثم شقيقه الثاني ماهر، الفقيه المتصوف الذي يقول إنه على منهج السلف الذي “يحرم الخروج على الحاكم” ويعتبر نفسه مخالفا لفكر جابر الذي حمل السلاح، ويصنفه ضمن الخوارج وكان يجادله قصد اقناعه. أما الشقيق الأكبر مراد، فهو صاحب الماجستير في الفلسفة وصاحب أطروحة “التسامح” وهو الشخصيّة المهيمنة على ما يبدو في المنزل.

يبدو من خلال نظارات مراد وكأنه حكيم العائلة وربما القرية. يقطع حديث أشقائه بحزم فيصمتون ثم لا يقاطعونه. ومع ذلك فهو يؤكد ان شقيقه الأصغر جابر لم يقتنع بكلامه رغم محاورته.

وفي الاثناء تبرز الشقيقة الرابعة لبنى التي أجرت منذ أيام عمليّة جراحية باطنية حولتها الى موضوع إشاعة من قبل بعض الجيران حول قيمة الاموال التي دفعتها للطبيب. فقد ذاعت الإشاعات أن المبلغ هو 30 ألف دينار (15 ألف دولار) وأن مصدر الأموال هو شقيقها الذي التحق بالمجموعات الارهابيّة بليبيا قبل مقتله. هذه الاشاعة “ضاعفت مرضي وأرهقت العائلة” تقول، لكونها مخالفة للحقيقة، فالمبلغ لم يكن سوى 3 آلاف دينار (1500 دولار) قيمة العمليّة الجراحيّة.

جهادي يتفلسف

درس جابر بالمعهد الثانوي بمدينة سبيبة في مستوى “الباكالوريا” وهو المستوى الذي يسبق المرحلة الجامعية. باشر دراسته منذ بداية السنة الدراسية في أيلول/سبتمبر 2014 إلى حدود شهر كانون الأول/ديسمبر وذلك قبل ان يختفي بلا رجعة. 

حصلت حادثة باردو في أيام العطلة المدرسية، ومع ذلك اهتز المعهد الذي يدرس فيه منفذ الهجوم. ذلك التلميذ الذي عرف بسيرته الحسنة وحسن محاورته لأساتذته حتى وهو في بداية تبينه للفكر الجهادي الذي لم يكن يخفيه على أساتذته ويناقشهم فيه بثبات كما يناقش أشقاءه في المنزل.

“كان تلميذا مجتهدا يحترم اساتذته ويناقشهم بأدب ويجادلهم في افكارهم ويستشهد بآيات قرآنية”، يتحدث استاذ الفلسفة عبد اللطيف الحسني عن تلميذه جابر الذي حصل على درجة يعتبرها مقبولة في امتحان مادة الفلسفة وهي 11 من 20 حول “الوعي بالذات يستوجب الوعي بالآخر”. 

يتحدّث الاستاذ عن “بروز علامات العزلة على تلميذه وتمسكه بأفكاره الدّينية وبفكرة الجهاد والسفر الى سوريا”. ولكنه يؤكد ان تلميذه “لم يكن عنيفا يتجاوز حدود التربية”.

عندما يئست العائلة وإدارة المعهد من قدرتها على رد جابر الى طبيعته أعلموا الجهات الأمنية فتدخلت حسب الاستاذ الحسني، وحققت في الموضوع، فقامت بإيقاف احد التلاميذ المجاهرين بحماستهم للجهاد في سوريا (يتحفظ “مراسلون” عن نشر اسمه) كما ذكر الاستاذ، ووصفه بانه اشد تطرفا فكريا من جابر.

يعتبر الاستاذ أن هذه التحولات التي لوحظت على التلاميذ مصادرها متنوعة. منها حالة الانفلات الأمني والتحرر الديني التي اتاحت اقامة خيمات دعوية قبالة المعهد مباشرة في البطحاء التي كان يفترض ان يقام فيها مستشفى، وكذلك توزيع منشورات تحريضية على التلاميذ.

ويؤكد الاستاذ وهو رئيس بلدية ايضا أن هذه الخيمات الدعوية لم تكن مرخصة. كما يوجه لومه بشدة الى محيط المعهد المفتقر الى فضاءات ترفيهية وثقافية وشبابية سمحت بتغول أفكار “معادية للحياة ولا تقبل الحوار”.

غسيل الدماغ

العائلة كانت على علم بما يحدث لدى ابنها من تحوّلات خلال دراسته وتابعت المراحل التي مرّ بها جابر خلال الاشهر الأربعة التي سبقت اختفاءه. فقد تحول من تلميذ مجتهد يواظب على وقت الحافلة التي تحمله في المجيء والذهاب على مسافة 22 كيلومترا في كل سفرة برفقة خاله عبد الباسط الذي يعمل مدرسا في المدرسة نفسها. وكان جابر يتحمل مشقة السفر وتعب الدراسة بمصروف جيب ضعيف، قبل أن يتحول إلى ناسك صغير مميز عن بقية أترابه بمن فيهم الذين يترددون على جامع القرية.

ويروي اشقاء جابر كيف أنه دخل مرحلة تصوّف وتعبّد بنسق سريع، فيصوم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع ويقصّر من طول سرواله (يروى أن هناك سندا فقهيّا في ذلك) ويقضي ليله في الصلاة وتلاوة القرآن، ثم يذهب فجرا الى المسجد ليصلي ثم يعود فيراجع دروسه وبعدها يتوجه الى المعهد على متن الحافلة.

أشقاؤه لاحظوا عليه كذلك شدة بكائه وعتابه لنفسه بسبب “كثرة ذنوبه”. فكان يقسو على نفسه بالاغتسال بالماء البارد في ليالي الشتاء الباردة.

في آخر أيامه أصبح الشاب النّاسك لا يقبل المحاورات الدينيّة بينه وبين أشقائه وكان يتمسك بفكر الجهاد ويخالفهم في مواقفهم وفقههم.

وكانت هيأة جابر ملفتة للانتباه ما جعل نظرات أبناء قريته مرتابة إزاءه، فقرر التخلي عن بعض التشدد في اللباس وجعل أسرته تطمئن لتراجعه عن افكاره المتشددة. ولبث على ذلك بضعة أيام قبل أن يمزق كل صوره وصور عائلته التي وجدها “بدعة” وجب التخلص منها.. ويختفي.  

من سفّره ومن أرسله؟

حزن العائلة التي فقدت ابنها، كان غير عادي. كانت في حيرة بين قبول العزاء والدعوات بالصبر والرحمة كعادة المسلمين في تقديم التعازي، وبين تبرّؤهم من فعل ابنهم حتى كادوا “ينسونه ولم يعد من يبكيه سوى قلب الام الثكلى التي لا تحاور احدا من غير العائلة”. لكن أحد أشقائه يؤكد أن جميع أفراد العائلة “يبكونه خفية”.

لم يكن سهلا على العائلة ايجاد العبارات المناسبة، فهي لا تعرف كيف تحزن وهل يحق لها أن تبكي ابنها مثل كل عائلة.

وقد كانت معادلة صعبة ولكنها “طوت صفحته” على حسب قول الأشقاء الذين يرددون:”أخونا نفذ جريمة ضد الانسانية وهو في نفس الوقت ضحية منظومة تدفع وتمول وتخطط وهي الجهة المستفيدة”.

وتعتبر عائلة جابر أن ابنها أجرم وتتبرأ من جرمه ولكن ترى ان “هناك من حرضه وارسله ووعده “بالحوريات” وتقدم العائلة فرضيات من قبيل “التخدير” و”الاختطاف”.

لا أدوس نملة!

مفارقات كثيرة حصلت يوم حادثة باردو كما يرويها أشقاء جابر. بداية الملابس التي ظهر بها هي نفسها التي خرج بها يوم اختفائه. وقد استغربوا من كيفية دخوله الى تونس بعد أن أخبرهم أنه في ليبيا وكان قد حدثهم بخط هاتف أجنبي.

لكن المفارقة الكبرى، كانت اثناء تنفيذ جابر للهجوم على متحف باردو يوم 18 مارس/آذار، فقد كان شقيقه مراد يشارك في مسيرة ضد الارهاب في مدينته تطالب بكشف قتلة شكري بلعيد.

وعندما سمع شقيقاه منذر وماهر بهجوم باردو كانا في المقهى، فنددا بالحادثة ولعنا الفاعلين دون أن يعلما أن شقيقهما الصغير هو أحد منفذي العمليّة الارهابيّة.

أما خاله فتذكر حين سمع بالخبر حديثا دار بينه وبين جابر في وقت سابق، يوم قال جابر: “يا خال، أنا لا أقدر على دوس نملة”.

انتظرت العائلة الى المساء حتى بلغها خبر مقتل ابنها. ولم تتعرف عليه من خلال الصور. وانتظرت وصول جثته حتى تمكنوا من التعرف على ابنهم اثناء تغسيلها.

من المعهد الى ليبيا

فرقة مكافحة الإرهاب واصلت التحري مع عائلة الخشناوي حتى أثناء دفن جثمانه في مقبرة القرية الممتدة، وأصبحت الفرقة تزور العائلة وربما تحدد الزوار المرغوب فيهم وغير المقبولين حسب افادة شقيق جابر الذي اخبرنا اثناء الاتصال به من اجل زيارتهم وإجراء الحوار “سأراجع الجهات المختصّة ثم أخبركم”.

بدأت التحقيقات الأمنيّة مع جابر خلال الصائفة الماضية أثناء تواجده للعمل الموسمي في مدينة المنستير السياحيّة. وقال شقيقه انه تعرض للاستجواب في 7 مناسبات من قبل الأمن بسبب هيأته ولباسه وتردده على المسجد فجرا، وهو ما يعني أن جابر كان محل تتبع أمني حثيث.

أما مع عائلة جابر فبدأ الاستجواب الأمني منذ بداية شهر يناير/جانفي 2015 وتحديدا بعد تفطن العائلة لعدم تواجد ابنها لا بالمعهد ولا بالمنزل.

يذكر الأشقاء يومها كيف هرع الوالد المولدي الى مركز الأمن يعلمهم بخبر اختفاء ابنه ويطالبهم بالتدخل لإرجاعه وايقافه. ورغم نجاح الأمن في ايقاف شاب يدعى هارون (زميله في الدراسة) إلا أن جابر غاب عن الأنظار ولم يتمكنوا من إيقافه.

أخطبوط لا يذهب للجهاد

يؤكد خاله خالد أنه يوم اختفائه رافقه على متن الحافلة المدرسيّة صباحا ولكنه في طريق العودة مساء لم يجده وبعد أيام من غيابه اتصل جابر بأسرته بواسطة هاتف جوّال أجنبي يخبرهم أنه في ليبيا.

يومها عدمت العائلة الحيلة لأجل اقناعه بالرجوع والعدول عن فكرته ولكن “تعصبه وتمسكه بما عزم عليه جعلاه لا يتراجع ولا يتراخى كأن هناك جاذبية أقوى من دموع الوالدة واستعطاف الأب” حسب قول أشقائه.

ويؤكدون :”هناك من هو أقوى من جابر ونريد أن تظهر حقيقة الجريمة”. ويعتبرون أن هناك اخطبوطا يحرك الشبان فيستقطبهم ثم يرسلهم ولا يذهب هو الى الجهاد.

وفي حديث الاشقاء عن “الكارثة” يهمسون بخشية أنهم “مستهدفون” ويقول ماهر “أنا أخاف وكان بإمكاني أن اعطي معلومات أكثر ولكن نحن مستهدفون”.

وأفاد ماهر أنه تعرض للاستجواب لدى فرقة مكافحة الارهاب بسبب انتمائه السلفي وأنه تحاور معهم وبين لهم فكره الرافض للخروج على الحاكم “لا بالقول ولا بالفعل”.

ويؤكد اشقاء جابر على عدم وجود أي حاضنة للتطرف في قريتهم “ابراهيم الزهار” رغم أن ملامح التدين تظهر على العديد من شبانها.

ويشيرون في المقابل إلى امكانية تعرض شقيقهم الى عمليات غسل دماغ في طريقه الى المعهد أو اثناء فترات الفراغ أو في الأماكن التي يرتادها اثناء تواجده للدراسة، ويكررون قولهم بأن الدولة تتحمل مسؤوليتها في كشف الحقيقة: “نريد الحقيقة من أجل الشعب التونسي ونعتذر من عائلات الضحايا”.

في طريق العودة تبدو مدينة سبيطلة الأثرية كإحدى المدن القديمة المنسية، فقد حولتها الحرب على الإرهاب الى منطقة أشبه بالعسكرية لا يدخلها زائرون ولا سياح.

إلا أن أحدا من أبناء هذه المدينة لن ينسى أن عزلتها واحجام السياح عن القدوم إليها ليسا إلا نتيجة لما قام به جابر وقبله آخرون من المتحمسين للوصول سريعاً إلى الجنة، ولو على حساب تدمير الأرض.