لم تنشر أية صحيفة مصرية (هل نقول بالطبع؟) أي لوحة من لوحات مجلة شارلي إبدو “المستهزئة” بالإسلام، على الرغم من تغطيتها المكثفة للحادثة الإرهابية المتمثلة في اقتحام مقر المجلة وقتل أبرز رساميها ومحرريها، بل إن كلمات مثل “إرهاب” أو “مذبحة” لوصف ما جرى في باريس قد استخدمت في أضيق الحدود لصالح كلمتي “الهجوم على” و”اقتحام” المجلة.
لم تنشر أية صحيفة مصرية (هل نقول بالطبع؟) أي لوحة من لوحات مجلة شارلي إبدو “المستهزئة” بالإسلام، على الرغم من تغطيتها المكثفة للحادثة الإرهابية المتمثلة في اقتحام مقر المجلة وقتل أبرز رساميها ومحرريها، بل إن كلمات مثل “إرهاب” أو “مذبحة” لوصف ما جرى في باريس قد استخدمت في أضيق الحدود لصالح كلمتي “الهجوم على” و”اقتحام” المجلة.
بل إن بعض الصحف، سارع أولا إلى نشر لوحة غرد بها حساب الصحيفة على موقع تويترقبل ساعات من المذبحة، تصور خليفة “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أبو بكر البغدادي، وهو يهنيء العالم باحتفالات ميلاد المسيح، وحاولت الصحف والمواقع المحلية بإعادتها نشر صورة البغدادي الترويج إلى أنها “الصورة المتسببة في الهجوم”، على الرغم من صعوبة تصوّر أن “عملية ” كتلك جرى تخطيطها وتنفيذها في تلك الساعات القليلة بين تغريدة المجلة، واقتحامها على يد الملثمين، اللذان عرفا فيما بعد باسم الأخوين كواشي، ثم عرفا بوصفهما عضوين في “قاعدة الجهاد في جزيرة العرب”، التي يتزعمها أيمن الظواهري “خليفة ” بن لادن، والتي عادت إلى الصورة بعد غياب طويل لصالح “منافستها” “الدولة الإسلامية” الشهيرة بـ”داعش”.
لكن عدم نشر لوحات شارلي، ليس بحد ذاته أمرا يصلح للحكم على تناول الصحف المصرية للأزمة، فالواقع أن كبريات الصحف العالمية امتنعت عن ذلك أيضا، بل لم تشهد الرسوم –هذه المرة- الحالة التضامنية التي شهدها ما عرف باسم “أزمة الرسوم الدنماركية” قبل سنوات، حين سارع عدد من صحف أوروبا –خاصة شمالها السكندنافي- إلى إعادة نشر الرسوم “دعما لحرية التعبير”، هذه المرة، وإن شهد العالم تضامنا هائلا تمثلت رمزيته في “مسيرة باريس” المليونية، فقد بدا أن بشاعة المذبحة التي أدت إلى هذا الحجم من التضامن، هي بذاتها قد أدت إلى تخوف أكبر أمام هذا التهديد الجدي والجنوني، فلم تعد نشر رسوم شارلي سوى قلة قليلة منها صحيفة ألمانية “هامبورغ مورجن بوست” تعرضت فور نشرها الرسوم إلى هجوم بعبوة حارقة لم يسفر –لحسن الحظ – عن إصابات، بشكل، عام، كان ما انتشر حقا على صفحات العالم، ليس الرسوم الساخرة، بل نقاش واسع حول حرية التعبير، أو –بمعنى أدق- حول “حدود ” حرية التعبير.
غير أن النقاش –العالمي – حول حرية التعبير لم يشغل المساحة نفسها في الصحافة المصرية، إذ تبدو رسوم شارلي البالغة الجرأة، والمتهمة بأنها تمس أحيانا حدود العنصرية، بعيدة جدا عن سقف التعبير في الصحافة المصرية إلى درجة لا تكون معها مناقشة تلك الرسوم متاحة، إلا في حدود مناقشة إن كانت تستحق المواجهة أم التجاهل؟
في الواقع، لو كانت الصحافة والصحف سلعة أو خدمة تلبي اتجاهات قراءها، فقد كان واضحا للغاية –وإلى حد صادم- في تعليقات القراء على المواقع الإلكترونية للصحف، أن حجم التأييد “للرد” على مجلة شارلي إبدو، حتى على هذا النحو من الدموية، أكبر بكثير من حجم الرفض، حتى الأًصوات الرافضة للهجمة الإرهابية، بدا فيها الصوت الرافض استنادا إلى مفهوم “حرية التعبير المطلقة”، بدا خجولا إلى جانب من رفضوا الهجمات لأنها “ستلحق الأذى بالمسلمين المقيمين بالغرب”، وكان التعليق الأكثر انتشارا هو عبارة “إذا كانت حريتكم لا ضابط لها، فلتتسع صدوركم لحرية أفعالنا” ، تناقل الآلاف هذه العبارة، “ربما” دون أن يعلموا إنها عبارة لمؤسس القاعدة الراحل أسامة بن لادن، ولم يفوت التنظيم الفرصة، فأعاد التذكير بالعبارة منسوبة إلى صاحبها، في الفيديو الذي أعلن فيه التنظيم تبنيه “غزوة باريس المباركة”.
في هذا المناخ، لا يصعب توقع أن التغطيات الصحفية المصرية الأولى لاقتحام شارلي إبدو، قد ركزت على كونها “المجلة المسيئة للرسول”، أكثر من تركيزها على فظاعة وخطورة ورمزية الاقتحام نفسه، فجاء عنوان الأهرام –أكبر وأٌقدم الصحف المصرية : “شارلي إبدو”.. تجربة صحيفة ساخرة.. تجرأت للتعرض للديانات والإساءة للنبي فانتهت بالحرق والقتل”، بينما سارعت صحيفة “الوطن”، في يوم الهجوم نفسه، إلى نشر بروفايل عن رئيس تحرير المجلة الفرنسية ستيفان شاربونييه، تحت عنوان “المتباهي للإساءة إلى الإسلام”، أما موقع المصريون، ذي الميول الإسلامية، فقد نشر، بعد الهجوم بقليل تقريرا بعنوان “شارلي إبدو : نقد حر أم استفزاز قاتل؟”
لم تكن الصحافة برمتها هجومية أو تبريرة على هذا النحو، غير أنها لم تكن تضامنية أيضا، باستثناء خطوات محدودة، أبرزها كانت لصحيفة المصري اليوم، التي نشرت رسوما لمجموعة رساميها رسوما تتضاممن بوضوح مع “زملائهم” في شارلي إبدو، تحت عنوان ” رسامو «المصري اليوم» يكتبون ويرسمون تضامنا مع شارلي إيبدو”.
ولم تلبث المجلة الفرنسية أن عادت للإصدار في العدد التالي بصورة جديدة للنبي محمد على الغلاف، ما وضع الصحف المصرية في ورطة جديدة، انتهت –مرة أخرى – إلى الامتناع عن نشر الغلاف “غير الاستفزازي” هذه المرة، الذي يصور الرسول دامعا ومتضامنا مع صحفيي شارلي، أعاد الغلاف الجديد الأزمة إلى منبعها الحقيقي، وهي عدم القدرة على نشر رسوم تتعلق بالأنبياء، حتى لو لم تكن ساخرة ولا مستهزئة.
كانت فتوى أزهرية تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين، قد حرمت تجسيد الأنبياء على شاشة السينما، وسرعان ما طالت الفتوى التجسيد في الصحف أو أي وسيلة نشر، ولا يمنع القانون ذلك التجسيد نصًا، لكنه يستطيع أن يعاقب عليه وعلى كثير مما لا يعجب المتدينيين، وفقا لمواد منع “ازدراء الأديان”. وقد التذكير بذبك، حين فوض رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، بعد أيام من الهجوم، رئيس وزراءه إبراهيم محلب، في منع تداول المطبوعات التي “تتعرض الأديان” أو “تثير الشهوات”.
هكذا، فإن هذا الثلاثي: 1- سيف القانون، 2- مزاج القراء المنعكس في التعليقات ، 3- المخاوف الأمنية من ردود أفعال المتطرفين، قد حكم ويحكم تناول الصحف المصرية لمذبحة شارلي إبدو، ووضع معظمها –باستثناءات نادرة – بين “التبرير ” والتخفيف” من الحدث، أو التناول الجاف التقريري له، هذا، من دون التطرق لقناعات الصحفيين أنفسهم، غير المنقطعة بطبيعة الحال عن آراء مجتمعهم، وهذا حديث آخر.