“ثمة شيء يضيع عند ترجمة المعنى” يقول المثل الانكليزي، وهو تماما ما قد يحصل عند البحث في واقع الحركة العمالية في مصر، إذ تتباين آراء أي طالب بحث أو مُنظّر من خارج الحركة عن تلك التي يبديها العاملون في معامل النسيج أو الحديد الصلب.

في هذا الحوار مع موقع “مراسلون” يقدم صلاح الأنصاري، العامل والنقابي اليساري والمدرب العمالي، آراءه حول الحركة العمالية النقابية في الآونة الأخيرة. 

 “ثمة شيء يضيع عند ترجمة المعنى” يقول المثل الانكليزي، وهو تماما ما قد يحصل عند البحث في واقع الحركة العمالية في مصر، إذ تتباين آراء أي طالب بحث أو مُنظّر من خارج الحركة عن تلك التي يبديها العاملون في معامل النسيج أو الحديد الصلب.

في هذا الحوار مع موقع “مراسلون” يقدم صلاح الأنصاري، العامل والنقابي اليساري والمدرب العمالي، آراءه حول الحركة العمالية النقابية في الآونة الأخيرة. 

الأنصاري هو نموذج لعامل استطاع أن يوظف ثقافته وخبرته العملية في تطوير أدواته وهيكلة تصور حول الإضراب والمفاوضة الجماعية ودور النقابة في تحقيق المكاسب للعمال. وهو يعمل الآن بنشاط -وهو في العقد السادس من عمره- على تصدير خبرته لعمال آخرين.  

في أيار/مايو 1968 عمل الانصاري في شركة الحديد والصلب بحلوان. بعدها التحق بالجيش ليشارك في حرب الاستنزاف ثم حرب 1973. خرج ليعود لعمله وهناك حضر أول دورة تدريبية نقابية في 1976. ومع مظاهرات 1977 المعروفة بانتفاضة الخبز ضد الغلاء تحوبت مرجعيته الفكرية من دينية إلى يسارية ليلتحق بحزب التجمع وينضم لاحقا لنقابة العاملين بالحديد والصلب في 1979 محملًا  “بوازع وطني”.

في أيلول/سبتمبر 1980 اعتقل الانصاري وآخرون لمدة 45 يوماً لتظاهرهم اعتراضًا على زيارة مزمعة لإسحاق نافون رئيس إسرائيل في ذلك الوقت إلى مصنع الحديد والصلب بحلوان، وبالفعل ألغيت الزيارة. وفي 1989 شارك في الإضراب الشهير لعمال المصنع لينشئ في 26 آذار/مارس 1990 مع كمال عباس ورحمة رفعت وصابر بركات وعطية الصيرفي ونقابين آخريين دار الخدمات النقابية والعمالية. 

في نهاية التسعينات وفي عهد حكومة عاطف عبيد تعرض النقابي العريق لمضايقات عديدة على خلفية مواقفه المناوئة للخصخصة. وهو يعمل الآن مدربًا عماليًا مع منظمة العمل الدولية والاتحاد الدولي للنقابات ودار الخدمات النقابية ومؤسسات أخرى.

ما هو تقييمك لأداء الحركة العمالية قبل وبعد الثورة؟

لا أريد أن أفرق بين ما قبل الثورة وبعدها عند تقييمي لأداء الحركة العمالية. لكن دعني أبدأ من كانون أول/ديسمبر 2006 مع إضرابات غزل المحلة، وما تلاها من حركات احتجاجية عمالية وأثر ذلك على الحراك الاجتماعي حتى رحيل مبارك.

قبل هذا الإضراب كانت الإضرابات مفاجئة وخاطفة، بعده طالت مدد الإضرابات. أذكر أن إضراب شركة مصر – اسبانيا للملابس بالمنصورة استمر 61 يوم وطنطا للكتان حوالي شهرين، مدد طويلة، تضامن مجتمعي، لكن المردود بالقياس لذلك كان ضعيفًا.

الظاهرة الثانية كانت الانتقال من مكان العمل (المصنع) والتوجه للعاصمة، والملهم لهذا التحول كان حركة “كفاية” عندما اتخذت من “سلم نقابة الصحفيين” مكانًا لها. من هنا جاء مفهوم “الوقفة الاحتجاجية” عند الحركة العمالية وهكذا انتقلت الحركة لشارع حسين حجازي، وأمام مجلس الشعب، والشورى من أجل الضغط على صاحب القرار نفسه أي الحكومة. والمثال الأوضح، وقفة العاملين بالضرائب العقارية في كانون أول/ديسمبر 2007 التي استمرت 11 يوم أمام وزارة المالية (صاحب العمل). ونجحت الوقفة وكانت المكاسب 300%.

بعدها بحوالي سنة تحولت اللجنة التي كانت تدير الإضراب إلى نقابة، وهنا تحقق التطور العمالي الطبيعي: إضراب – مفاوضة – نقابة. ونشأت الحركة النقابية المستقلة مع نقابة العاملين بالضرائب العقارية ثم نقابة الفنيين الصحيين وأصحاب المعاشات. الحركة كانت حماسية وكان المجتمع المدني يساندها معنويًا وأحيانًا بتيسير أمور الإعاشة.

ثم حدثت الثورة، واستمرت الإضرابات وتصاعدت وتيرتها، حتى أن ذلك عجّل بسقوط مبارك. ثم جاء المجلس العسكري ووصف مطالب العمال بـــ”الفئوية” لاتهامهم بضيق النظرة وعدم مراعاة الصالح العام. وعزف على نفس المنوال المفتي- والإخوان- وحزب الوفد، وذلك لعزل العمال عن الثورة.

كيف تغير شكل الإضراب بعد الثورة؟

الإضراب هو بالأساس الامتناع عن العمل بغرض التأثير والضغط على صاحب العمل لتلبية مطالب العمال من خلال المفاوضة الجماعية، وحين يصاحبه تظاهرة عمالية إذن أنت أمام حشد عمالي خاصة إذا كان مكان العمل كبير، مع وجود هتافات ضد النظام، يتحول الإضراب إلى مظاهرة سياسية وحدث هذا مع إضرابات غزل المحلة.

بالطبع لثورة يناير آثارها على الحشود العمالية وهي تحول الإضراب إلى تظاهرة سياسية لدرجة أن عمال الحديد والصلب بحلوان في إضرابهم في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 اقاموا منصات في ساحة المصنع على غرار منصات ميدان التحرير وأخذوا يهتفون ضد رئيس الشركة “هو يمشي مش حنمشي” مثلما هتف ثوار التحرير ضد مبارك. والأمثلة كثيرة.

زادت “شخصنة” المطالب، أي حصر الإضراب في شخص معين، رئيس شركة أو مصنع، وأحيانا بلا دليل مادي. وكذلك تواجد الفصائل السياسية التي تحاول تحميل الإضراب بمطالب سياسية. خاصة أن أخبار الإضراب تذاع على الهواء، على القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، فيتم توصيل الرسالة.

بحسب كتاب “سيكولوجية الجماهير” لجوستاف لوبون، لا يمكن السيطرة على الحشد، وهذا أمر حقيقي لحد كبير. لكن لابد مع بدء الإضراب أن يعرف العمال متى سيتوقفون. لابد أن يعي العامل أن الغرض من الإضراب هو الوصول للمفاوضة الجماعية. وقبل المفاوضة لابد أن يعرف علما سيتفاوض. على حق منصوص أم من أجل مصلحة معينة. “الحق” هو ما نصت عليه اللوائح والقوانين، أما استحداث حق غير منصوص عليه “أي منفعة أو مصلحة جديدة للعمال”، ففي هذه الحالة لابد من توقيع إتفاقية جماعية بين العمال والإدارة لتكون وثيقة ملزمة وتأكيد على “المصلحة” التي تكون بتوثيقها حقًا جديدًا. وللأسف يغفل عن هذا الشق العديد من العمال، فبمجرد أن ينالوا مطالبهم ينفضوا دون توثيق لهذا الحق الجديد مع الإدارة التي سرعان ما تجد أي ذريعة للنكوث عن إتفاقها. لا يزال مفهوم المفاوضة الجماعية غائب.

ماهي أهم مكتسبات الثورة بالنسبة للعمال؟

بالطبع، الحق في التنظيم. لقد إكتسب العمال الحق في تنظيم أنفسهم في نقابات مستقلة داخل القطاع العام وخارجه (في القطاع الخاص وغير الرسمي) والدليل العدد الكبير للنقابات المستقلة الآن التي فرضت وجودها

لكن كيف دون وجود قانون جديد للنقابات؟

استنادًا إلى إتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 بشأن الحرية النقابية وحماية حق التنظيم، لعام 1948 التي وقعت عليها مصر، والقرار الوزاري الذي أصدره الدكتور أحمد حسن البرعي في عام 2011 عند توليه وزارة القوى العاملة وأعطى الحق للعمال في إنشاء نقاباتهم مستقلة. ثم أن الدستور الجديد ولأول مرة في مصر ينص على الإلتزام بالمعاهدات والإتفاقيات الدولية. وقانون النقابات الحالي يخالف الإتفاقية بإلزام النقابات أن تكون تحت مظلة اتحاد عمالي واحد “الاتحاد الرسمي”.

وهل هذا كافٍ؟

لا بالطبع. لابد من قانون جديد للنقابات يسمح بالتعددية النقابية. لكني أخشى من دخول القانون للبرلمان ثم صدوره دون أن يكون في صالح العمال.

ما هي أولويات الحركة العمالية في الوقت الراهن من وجهة نظرك؟

حجم القوى العاملة في مصر 24 مليون عامل. حوالي 6 مليون عامل أعضاء في نقابات، في حين ثلاث أرباع القوى العاملة غير محمية نقابيًا. لابد من تحديد الأولويات: هل الأهم هنا الاستحواذ على الموجودين تحت المظلة النقابية ليكونوا إما في الاتحاد الرسمي أو النقابات المستقلة؟ أم ضم أعداد جديدة ليكونوا نقابيين جدد؟ هذا هو السؤال وعليه يتم تحديد أولويات العمل.

هناك فئات محرومة بقوة القانون من إنشاء نقاباتها لأنهم يعملون في منشآت يقل عدد عامليها عن 50 عامل. وتلك المنشآت يقدر عددها بـ 1.600.000 منشأة. أيضا ضعف اليسار أدى إلى ضعف الحركة العمالية، فهناك علاقة طردية بين الإثنين. وكذلك لا يمكن للحركة العمالية أن تقف بمعزل عن القوى الموجودة، سواء مجتمع مدني، أحزاب، حتى الاتحاد الرسمي. نحن بحاجة إلى مساندة ومائدة مستديرة تجمع الشركاء الاجتماعيين لتوفيق أوضاع العمال والنقابين.          

مؤخرًا طالب الاتحاد الرسمي بحقه “الدستوري” بإعطاء صفة العامل للمرشح للانتخابات البرلمانية –على مقعد العمال- فما رأيك؟

انفراد الاتحاد بإعطاء صفة العامل للمرشح أمر زائف. لأن مجلس إدارة الاتحاد غير منتخب، ومجالسه غير منتخبة هي الآخرى وذلك بعد حلهما في 2011 من قِبل حكومة عصام شرف، وليس القائمون عليه الآن إلا مجرد لجنة إدارية لتسيير أعمال الاتحاد. وإن كان من حق الاتحاد قانونيًا إعطاء هذا الصفة باعتباره جهة ممثلة للعمال، فمن حق النقابات المستقلة والاتحادات الإقليمية والنوعية التي أودعت أوراقها بوزارة القوى العاملة- باعتبارها الجهة الإدارية المختصة- إعطاء ذات الصفة.

بحسب قانون ممارسة الحياة السياسية، يُعطى صفة العامل، من كان منضمًا لنقابة عمالية ومسددًا لاشتراكاتها. وهذا عوار في القانون لأن صفة العامل لا تقترن بانتساب العامل للنقابة من عدمه. الأَوْلَى أن يكتفي المرشح بشهادة من مكان العمل تفيد بكونه عامل.

والحقيقة أن إعطاء الحق لنقابات الاتحاد كان لحرمان عمال لا يرغب النظام في دخولهم البرلمان لحساب عمال مرضيُ عنهم. تمامًا كما حدث مع كمال عباس عندما رفضوا إعطائه صفة العامل عند ترشحه للبرلمان. أيضا هناك نموذج عبد المحسن حمودة مهندس البترول الذي لا ينتسب إلى نقابة عمالية ودخل البرلمان بصفته عامل!

المغزى أن السلطة لديها ميل لاستغلال جهة ممثلة للعمال لتأييد قراراتها، ولقد أبدى الاتحاد مبكرًا استعداده لتقديم فروض الولاء والطاعة بتأييد السيسي حتى قبل عزمه الترشح للرئاسة. هذا اتحاد موالي للسلطة ولم يعمل أبدًا لصالح العمال.