“يتصل بي المهربون السودانيون، ونحدد مكاناً لاستلام الركاب، حيث تتم عملية البيع والشراء، ومن ثم أقوم ببيع المهاجرين لأشخاص آخرين يقومون ببيعهم مجدداً في نقطة أقرب إلى الساحل كل مرة، وهكذا حتى يصلوا إلى أوروبا”، بهذا يصف المهرب (م. ف) تجارته المربحة التي تدر عليه المال.

عمل هذا المهرب الشاب، 33 عاماً، ليس آمناً. ففي كل رحلة  يخاطر بحياته، مثله مثل المهاجرين الذين يحلمون بالعيش الرغيد على الضفة الأخرى من المتوسط، لكن هدفه يختلف عنهم، وينحصر فقط بالمال.

المزيد من المال

“يتصل بي المهربون السودانيون، ونحدد مكاناً لاستلام الركاب، حيث تتم عملية البيع والشراء، ومن ثم أقوم ببيع المهاجرين لأشخاص آخرين يقومون ببيعهم مجدداً في نقطة أقرب إلى الساحل كل مرة، وهكذا حتى يصلوا إلى أوروبا”، بهذا يصف المهرب (م. ف) تجارته المربحة التي تدر عليه المال.

عمل هذا المهرب الشاب، 33 عاماً، ليس آمناً. ففي كل رحلة  يخاطر بحياته، مثله مثل المهاجرين الذين يحلمون بالعيش الرغيد على الضفة الأخرى من المتوسط، لكن هدفه يختلف عنهم، وينحصر فقط بالمال.

المزيد من المال

(م . ف) هو شاب ليبي ترعرع وسط عائلة محدودة الدخل في مدينة الكفرة (أقصى الجنوب الشرقي الليبي)، وقد أصبح مسؤولاً عن عائلته المكونة من والدته وخمسة إخوة أحدهم معوق والبقية تحت سن العمل، وذلك بعد وفاة والده منذ خمس سنوات.

رغم كونه موظفاً بالدولة في قطاع الزراعة ويتقاضى مرتباً دون أن يعمل، كغيره كثر من الشباب في ليبيا يقول يقول (م. ف) إنه يحتاج للحصول على المزيد من المال بأية طريقة أخرى كي يعيل عائلته، وكونه يعيش في منطقة حدودية ويعرف الصحراء المحيطة بمدينته جيداً فهذا العمل مغرِ جداً ومربح.

العقاب غير رادع

“لم أفكر يوماً في عواقب هذا الأمر، فقد تم إلقاء القبض علي أكثر من مرة على يد الجيش وقوات مكافحة الهجرة غير الشرعية، ولكن الهروب من السجن سهل جدأ، وحين لا أتمكن من الهروب أقضي حكم السجن وأدفع الغرامة وأخرج كالعادة، لاتوجد قوانين صارمة فى مثل هذه الجرائم”، يقول (م. ف) في حديثه لـ “مراسلون”.

تستغرق كل عملية تهريب يقوم بها (م. ف) في الصحراء ثلاثة أيام يواجه احتمالات شتى، فيما تنتظره والدته التي تعمل في خياطة ملابس الأطفال، وتحلم بأن تزوجه في المستقبل القريب، خاصة وأنه يكسب جيداً من عمله وقادر على فتح بيت وتكوين عائلته الخاصة.

وبالرغم من معرفته بأن عمله مخالف للقانون، وأنه يقوم باستجلاب أشخاص غير مرخص لهم بدخول أرضه، وبالرغم من اقترابه من الموت مراراً، بل واضطراره أحياناً إلى نقل أشلاء ركابه إثر انقلاب السيارة في المطاردات، إلا أنه لم يتخذ بعد قراره بالتوقف عن هذا العمل وإيجاد باب رزق آخر يدر عليه المال.

تجارة رائجة

خبر إلقاء القبض على مهاجرين غير شرعيين في محيط مدينة الكفرة أصبح خبراً عادياً يسمعه الناس ولا يكترثون، فالمنطقة تشهد نشاطاً مكثفاً في هذه العمليات منذ الثورة.

آخر هذه الأخبار كان يوم 29 نيسان/أبريل الماضي، حين قامت مجموعة عمليات الكفرة المكلفة بحماية وتأمين الحدود بالقرب من منفذ العوينات الحدودي بإلقاء القبض على مجموعة سيارات نوع تويوتا على متنها أكثر من 500 مهاجر غير شرعي.

أكثر من 75 منهم وجـدوا هائمين فى الصحراء حتى إن أربعة منهم فارقوا الحياة جراء العطش والجوع، وقد تم تسليمهم للقوة المشتركة التابعة لدولة السودان، وهم في طريقهم إلى منطقة الكرب بالسودان.

حلم أصبح كابوساً

أحد الملقى القبض عليهم في مركز مكافحة الهجرة غير الشرعية بالكفرة التقاه “مراسلون” في آب/أغسطس الماضي قبيل ترحيله مباشرة، وهو شاب أريتيري يدعى جابر.

يروي جابر أنه باع قطعة الأرض الوحيدة التي كان يملكها في مدينة أسمرة ليحقق حلمه بالهجرة إلى “أرض النعيم” كما يسميها، مبدداً حلم والدته بأن يزرع أرض والده وجدّه.

الشاب الذي يبلغ من العمر 28 عاماً والمتزوج حديثاً، توفيت عروسه الحامل “نيمارا” خلال الرحلة وهي في شهرها الخامس، في حادث سيارة، بعد أن عانت مشاق التنقل في الصحراء مع الجوع والعطش وقلة الراحة.

دفع جابر 500 دولار أمريكي ليقطع المرحلة الأولى والثانية من رحلته، التي تبدأ من إحدى مناطق شمال السودان حتى الحدود الليبية، حيث المرحلة الثالثة “وهنا بدأت المعاناة” بحسب وصفه، فقد ساء وضع زوجته الصحي ولم يعد بحوزته سوى الماء وبعض التمر.

نهاية مفجعة

[ibimage==12891==Small_Image==none==self==null]

تصوير مصطفى الأوجلي

 

في المرحلة الثالثة من الرحلة كان رفقة جابر وزوجته حوالي 20 راكباً آخرين على متن سيارة تويوتا، يقودها سائق سوداني نقلهم إلى نقطة فاصلة بين الحدود الليبية السودانية تعرف بـ “نقطة بيع المهاجرين”، حيث قام ببيعهم لمهرب ليبي.

المهرب الليبي تقاضى من كل راكب 500 دولار لينقلهم إلى نقطة أخرى لم يصلوها، حيث داهمتهم دورية أمنية تابعة لمكتب مكافحة الهجرة غير الشرعية بقوة ستّ سيارات مسلحة، على بعد 120 كيلومتر شرق مدينة الكفرة بالقرب من الحدود المصرية المحاذية لجبال عبدالمالك.

قامت القوة بمطاردة سيارات المهربين الثلاث التي تحوي كل منها بين 22 و25 راكباً من مختلف الجنسيات في الصحراء لمدة ربع ساعة تقريباً، بعدها تمكنت القوة من الإمساك بسيارتين بينما انقلبت الثالثة التي كان جابر على متنها.

أسفر الحادث عن وفاة أكثر من سبعة ركاب وجرح البقية وبينهم جابر وزوجته، ليتم نقلهم إلى مستشفى الكفرة على الفور لتلقي العلاج، إلا أن نيمارا لفظت أنفاسها الأخيرة بمجرد وصولها إلى المستشفى هي وجنينها الذي لم يرَ النور، وتم دفنها هي وغيرها ممن فارقوا الحياة في مقبرة خاصة بالمهاجرين غير الشرعيين في الكفرة.

أما جابر فقد تمت معالجته من جروح خفيفة أصابته وكسر في يده اليمنى، وبعد علاجه نُقل إلى سجن الهجرة غير الشرعية، ليتم ترحيله إلى موطنه بعد أن خسر زوجته وطفله وأرضه وحلمه.

مصدر للوباء الكبدي

في مستشفى الكفرة تحدث إلى “مراسلون” الطبيب وليد حمدي، الذي كان مسؤولاً عن علاج الحالات الوافدة إلى المستشفى في تلك الليلة، وعددها بحسب قوله كان يفوق العشرين حالة بينهم أطفال ونساء.

إلا أن ما لفت حمدي في هذه المجموعة أن “من بين الجرحى والموتى من كان مصاباً بمرض الوباء الكبدي، وهو مرض خطير وشديد الانتشار بالأخص بين حالات الهجرة غير الشرعية التي تعتبر المصدر الأساسي لهذا المرض في ليبيا”.

بعد مرور المقبوض عليهم على الفحص الطبي يتم تحويلهم إلى مكتب مكافحة الهجرة غير الشرعية بالمدينة، الذي قال رئيسه محمد الفضيل إنه “يتم تجميعهم واحتجازهم بالمكتب ريثما يتم ترتيب إجراءات ترحيلهم إلى بلادهم”.

المهربون الليبيون

بحسب الفضيل، رئيس مكتب مكافحة الهجرة غير الشرعية في الكفرة، فإن المهربين الليبيين في حالة القبض عليهم يسجنون لمدة ثلاثة أيام، ومن ثم يجري تحويلهم إلى النيابة العامة التي ترسلهم إلى السجن الرئيسي “الكويفية” في بنغازي، لقضاء فترة السجن التي يقررها القاضي، بعد مصادرة السيارة ودفع غرامة مالية تقرر قيمتها المحكمة.

ويتمنى الفضيل أن يحصل على إمكانيات أكبر ليؤدي دوره في القبض على المهربين، ويشتكي من نقص الدعم سواء من الحكومة “التي من المفترض أن تقوم بتوفير إمكانيات للحد من الهجرة غير الشرعية ومراقبة الحدود، خاصة الجنوبية التي تطل على ثلاث دول مصر والسودان وتشاد، لتسهيل تحديد مناطق نشاط المهربين والقبض عليهم” بحسب قوله.

لكن بحسب المهرب (م. ف)، فإن العقوبة التي يواجهها بعد القبض عليه ليست بالرادعة، وهي لن تثنيه عن مواصله نشاطه في التهريب إلى أن يجمع مبلغاً كافياً بالنسبة له من المال.

وفيما يعاود (م. ف) الكرة يساهم في تعريض المزيد من الحالمين من أمثال جابر لخطر الموت أو فشل المحاولة وخسارة المال، وفي أحسن الحالات الوصول إلى البحر الذي يعد راكبي أمواجه بكل الاحتمالات.

لكن المهرب الشاب يقول أن أولئك المهاجرين “لم يأتوا من بلدان تقل فيها مخاطر الموت عن ما يتعرضون له في ليبيا”، وبهذا يعزّي نفسه كل يوم ويبدأ رحلة جديدة نحو مجاهل الحدود.