كل صباح، في مقاهي تونس العاصمة وبالتحديد في شارع الحبيب بورقيبة يجلس موظفو الإدارات لتصفح الجرائد وتتبع الأخبار التي تهم بلادهم وخاصة الاقتصادية منها، قبل الالتحاق بمقرات عملهم.

في مقهى الكون بشارع بورقيبة بالعاصمة، يصدر أحد الحرفاء شهقة، يشرب بعدها كوبا من الماء ثم يضرب كفا بكف ويقول: “بلد ينتمي اليه 6500 مليونيرا واقتصاده يقارب على الإفلاس”.

كل صباح، في مقاهي تونس العاصمة وبالتحديد في شارع الحبيب بورقيبة يجلس موظفو الإدارات لتصفح الجرائد وتتبع الأخبار التي تهم بلادهم وخاصة الاقتصادية منها، قبل الالتحاق بمقرات عملهم.

في مقهى الكون بشارع بورقيبة بالعاصمة، يصدر أحد الحرفاء شهقة، يشرب بعدها كوبا من الماء ثم يضرب كفا بكف ويقول: “بلد ينتمي اليه 6500 مليونيرا واقتصاده يقارب على الإفلاس”.

عديد التونسيين تزعجهم التقارير الاقتصادية التي تنشر وتذاع يوميا سواء على لسان الفاعلين الاقتصاديين أو في بيانات المؤسسات الاقتصادية الوطنية والعالمية. الجميع في تونس أصبح محتارا بين التقارير التي تؤكد سير اقتصاد البلد نحو الانهيار، وبين الارقام التي تفيد بتزايد عدد الاثرياء.

فبينما يصرح محافظ البنك المركزي التونسي السيد الشاذلي العياري بأن الوضع المالي في تونس خطير وأن هذا الوضع الصعب قد يؤدي إلى عدم إيفاء الدولة بالتزاماتها المالية فيما يتعلق بدفع الأجور خلال الأشهر القادمة، يكشف تقرير معهد “نيو وورلد هيرت” البريطاني حول الثروة في العالم، أن تونس تحتل المرتبة الأولى في المغرب العربي بـ6500 شخص يملكون ثروات تقدر بأكثر من مليون دولار، و70 مليارديرا بأكثر من مليار دولار لكل واحد، كما جاءت تونس ضمن البلدان العشر الأوائل في افريقيا من حيث عدد الاشخاص المالكين للثروة.

وللتذكير فإن المعايير التي تحدد صفة المليونير، هو كل شخص يملك مليون دولار فأكثر دون احتساب الممتلكات العقارية.

أعلى عشر أجور

كما كشفت مجلة “انتربريز مغازين” في عددها الأخير عن أصحاب أكثر 10 أجور في تونس اعتمادا على مداخليهم السنوية من مؤسساتهم المشغلة فقط. وتراوحت هذه الأجور بين 89 ألف دينار شهريا (مدير عام مجموعة “لاكارت”) وحوالي 52 ألف دينار شهريا (نائب رئيس مدير عام امان بنك) و44.5 ألف دينار شهريا (مدير عام الاتحاد البنكي للتجارة والصناعة)، علما أن الدينار التونسي يعادل حوالي 60 سنتا امريكيا.

مثل هذه الأرقام تزعج المواطن البسيط في تونس وتربكه خاصة بعد ثورة حدثت ضد الظلم والحيف وضد التفاوت الاجتماعي والجهوي. فمؤشر أسعار المواد الغذائية يتواصل في الارتفاع شهرا بعد شهر حسب احصائيات المعهد الوطني للإحصاء وأجور الموظفين لم تعد تسد الرمق وصيحات الفزع تتعالى من هنا وهناك، من منظمة الشغيلة ومن منظمة الأعراف وحتى من المسؤولين الاقتصاديين لتشير إلى أن اقتصاد البلاد بصدد الانهيار.

السيدة وداد بوشماوي رئيسة منظمة الأعراف ذكرت مؤخرا في ندوة صحفية بأن الطبقة المتوسطة التي كانت تميز المجتمع التونسي تسير نحو الاندثار، وهذا يعني أن نسبة كبيرة من المجتمع التونسي أصبحت تعد من الفئات التي تعاني الفقر والخصاصة.

وفي السياق نفسه صرح محافظ البنك المركزي مؤخرا أن أسعار السلع الاستهلاكية شهدت ارتفاعا جديدا في شهر أغسطس/أوت 2013 ووصلت إلى حدود 6.4 بالمائة.

هذا الارتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية يعود أساسا إلى وجود عوامل مؤثرة في هذا القطاع تتمثل في ارتفاع الطلب على المواد الأولية من الحبوب والمحروقات والأسمدة وكذلك الى ضعف الدولة وغياب المراقبة الصارمة على الأسعار التي يتلاعب بها التجار.

ويضيف المحافظ بأن هذا نتج عنه تدن في المقدرة الشرائية رغم محاولات التحكم في غلاء الأسعار ومواجهة المضاربة التي تؤثر خاصة في أصحاب الأجور المتدنية، فأصحاب الدخل المحدود أكثر ضحايا ارتفاع الأسعار الذي أوصلهم إلى أزمة اقتصادية خانقة أثرت بشكل كبير في أحوالهم المعيشية مما جعلهم يلجئون إلى تقليص نفقاتهم ومصاريفهم بعدولهم عن شراء العديد من السلع والمواد الغذائية، أو اللجوء إلى الأسواق الموازية التي تبيع بأسعار أقل نسبيا بضائع في أغلبها مهربة.

لكن ما لم يفهمه المواطن البسيط في تونس هو أن تتعكر حالته الاقتصادية ويلجأ إلى التقشف  والتضحية في أغلب الأحيان بحاجاته الأساسية بينما يتواصل ارتفاع أجور عدد من المسؤولين الكبار في الدولة وفي المؤسسات الخاصة (أجر رئيس الجمهورية حوالي 45 مرة معدل الأجر في تونس الذي يصل  الى ألف دينار تونسي)، هذا دون ذكر امتيازات السكن والنقل. ويصل عدد أصحاب الملايين إلى أكثر من 6500 مليونيرا في حين أن مواطن الشغل قلت والبطالة استفحلت.

وضع خطير

البنك الدولي بدوره حذر في تقرير أصدره مؤخرا من خطر تباطؤ النمو الاقتصادي لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، معتبرا أن وضع كل من مصر وتونس ولبنان والأردن وإيران هو الأخطر وذلك بسبب العجز المالي والمديونية العالية وارتفاع معدلات البطالة والتضخم وتواصل الركود فيها، وأرجع التقرير السبب في ذلك إلى انكماش الحركة الاقتصادية فيها وإلى تواصل الأوضاع المضطربة.

وتشير كافة البيانات إلى أن القطاعات الاقتصادية بتونس تضررت سواء لأسباب سياسية أو أمنية أو اجتماعية، الأمر الذي أثر على نسب النمو المسجلة في النصف الأول من السنة الحالية فكل الأرقام أشارت إلى أن نسبة النمو لن تتجاوز 3 بالمائة. ولا يعد هذا التحذير مفاجئا بعد أن طالت الأزمة كل المجالات وخاصة تراجع الاستثمار الخارجي وغلق العديد من المؤسسات الاجنبية والمحلية.

إذن يمكن للأرقام التي صدرت عن عدد أصحاب الثروة من التونسيين أن تصدم المواطن البسيط الذي يرى أن تونس تحتاج اليوم إلى أصحاب رؤوس الأموال الضخمة للاستثمار وانقاذ الاقتصاد الوطني المتهاوي.

لكن على عكس ذلك، يذهب العديد من الخبراء والمراقبين الاقتصاديين الى اعتبار الامر الحاصل شيئا عاديا، وان الارقام الصادرة أرقاما معقولة إذا ما وضعنا احتمال أن يكون اصحاب الأموال الضخمة ممن يملكون استثمارات بالخارج باعتبار أن الاقتصاد الداخلي كان خلال السنوات الماضية في ظرف غير صحي بالإضافة إلى تراجع قيمة الدينار التونسي أمام العملات الأخرى هذا دون التغافل عن الفساد الذي يساعد على جمع الأموال في ظرف وجيز.

وكانت مؤسسات عالمية اقتصادية تعنى بقياس التنافسية والشفافية المالية قد صنفت تونس ضمن الدول التي تفشى فيها الفساد المالي بصفة كبيرة خاصة بعد الثورة وخلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد. من ذلك ان بلجيكا اصدرت مؤخرا تقريرا صنفت فيه تونس في المرتبة الخامسة عالميا في مسالة تبييض الاموال والتحيل الدولي والتهرب الجبائي.

ولعل الحراك السياسي الذي تشهده البلاد اليوم وعدم اتفاق الفاعلين السياسيين على خطة طريق واضحة لإنهاء المرحلة الانتقالية يلعب دورا مفصليا في تراخي عملية الاستثمارات التي ينتظر رجالها دائما موعد الاستقرار السياسي وما يتبعه من استقرار على المستوى الأمني والاجتماعي لتحديد موقفهم وتوضيح رؤيتهم بشأن بعث مشاريعهم التي تتطلب اموالا هامة وضمانات تعتبر بالنسبة إليهم المقياس الأهم والمحرار الذي يعدل موجة وجهتهم بالإضافة إلى ضرورة إصلاح قوانين الاستثمار وتفعيل فصولها وإزالة التعقيدات الكبيرة الموجودة بها في مستوى الاجراءات الإدارية والقانونية والتي لا تراعي واقع الاستثمار الحالي في تونس.

كل هذه الأخبار وغيرها يتم نشرها يوميا على الصحف التونسية وتتناقلها وسائل الإعلام المحلية والاجنبية، ويقرؤها المواطن البسيط كما السياسي والمسؤول ويقرؤها الذي يحتسي قهوته يوميا في شوارع العاصمة دون أن تذهب حيرته المتزايدة حول مصير بلده. اذ ان الشيء الوحيد السائد اليوم في تونس هو اصدار التحذيرات من الجميع بأن اقتصاد تونس في خطر.