ماذا يعني أن تكون صحافيا إذا فقدت القدرة أو الرغبة على المشاكسة وطرح الأسئلة والبحث عن أجوبة لها؟ ماذا يعني أن تكون صحافيا إذا ما تلازمت هويتك مع النضال السياسي، فتحولت إلى “بوق” ناشط للدعاية السياسية لا تحت ضغط الترهيب بل بخيار شخصي مرتبط بأزمة هوية لاعلام لم يعُد يرى في دوره ناقلا للخبر وباحثا عنه بل مناضلا من أجل “القضية”.

ماذا يعني أن تكون صحافيا إذا فقدت القدرة أو الرغبة على المشاكسة وطرح الأسئلة والبحث عن أجوبة لها؟ ماذا يعني أن تكون صحافيا إذا ما تلازمت هويتك مع النضال السياسي، فتحولت إلى “بوق” ناشط للدعاية السياسية لا تحت ضغط الترهيب بل بخيار شخصي مرتبط بأزمة هوية لاعلام لم يعُد يرى في دوره ناقلا للخبر وباحثا عنه بل مناضلا من أجل “القضية”.

ارتبط هذا الأسلوب الإعلامي “النضالي” باضطراب العملية الاننقالية السياسية وصعوبة توقع تغيراتها والانقسامات الحادة التي ترافقها، ليشكل أحد أبرز وجوهها. وساهم تعاظم دور وسائل التواصل الحديثة في تأكيد هذا التماهي بين الشخصي والمهني بعدما قامت مواقع التواصل الاجتماعي بدور أساسي في نقل تطورات الشارع في ظل الثورات، واستمر دورها فاعلا في كشف ما لايقوى الإعلام التقليدي على نقله أو الوصول إليه بعد الفصول الاولى من هذه الثورات وفي ظل تداعياتها.

ولعل الاعلام التقليدي قام باقتباس هذه اللغة قتحولت برامج التوك شو إلى استعراض شخصي للمواقف والمشاعر وعمليات توجيه ايديولوجية ساذجة للمواطنين إلى “الصواب” السياسي.

ترافقت الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا مع جدال حول ضرورة تحرير الإعلام الوطني من سلطة السياسة بعدما خدم طويلا بوقا للأنظمة خصوصا في شقه الرسمي. وترافق هذا الجدال مع أسئلة حول معنى المهنية وتطبيقاتها ودور الإعلام في تمثيل مختلف شرائج المجتمع.

أثبتت التجربة في ظل تعقد عمليات الاننقال التي تشهدها الثورات العربية عن هزال هذه النقاشات التي لم تنجح في إرساء مفهوم متوافق عليه لدور الاعلامي بما يتجاوز الدفاع عن المعسكرات السياسية فعاد الاعلام التقليدي إلى سابق عهده ليمارس دوره التقليدي: بوق دعائي للسياسة.

تعتبر التجربة المصرية المثال الأبرز لهذه الحالة الاعلامية، إذ ترافق التغيير الاخير والذي أدى إلى الإطاحة بحكم الرئيس الاخواني على يد الجيش مع موجة “انبطاح” اعلامية تمثلت بأسلوب ابتهاجي تعظيمي بالجيش جعل مختلف وسائل الاعلام- مع اسثناءات قليلة جدا- رسمية وخاصة على حد سواء، تمارس قرع الطبول احتفالا بالتغيير مع استبعاد كامل لطرح أسئلة عاجلة مترافقة معه وخصوصا  طمس وجهات النظر الرافضة لهذا التغيير أو المستاءة منه.

بعد اسكات صوت الاعلام الاسلامي، تحولت الساحة الاعلامية إلى أحادية اختصرت التغيير الخطير بخطاب الثناء على الجيش في أسلوب ساذج على مثال قيام مقدم توك شو بغناء النشيد الوطني والتلويح بالعلم المصري، وقيام أخرى بتهنئة الشعب المصري بالسلامة مؤكدة أن مصر “عادت حلوة” وأن “الشعب المصري أثبت أنه صاحب السيادة هو وحده”، إلى ما هنالك من آيات المدح الإعلامي.

حل هذا الخطاب الذي امتزج بتعبيرات مثل “التمأسملين” و”الخونة” وحتى “الارهابيين” في توصيف أنصار الاخوان المسلمين إلى الخطاب التحريضي ضد الجاليتين القلسطينين والسورية على افتراض تأييدهما لمحمد مرسي، حل محل خطاب العنف والتشهير الذي مارسته القنوات الدينية والتي غالبا ما نعتتت الاعلام الذي يطلق على نفسه توصيف الليبرالي بـ “الكفرة” و”رواد البارات” فضلا عن عمليات تشهير طاولت اعلاميين ورجال سياسة.

اما الاقفال الاعتباطي لمحطات تلفزيونية واعتقال قسم من طواقمها فلم يثر إلا ردات فعل تباينت بين الثناء والتبرير حتى أن رئيس تحرير إحدى الصحف دعا إلى حملة شعبية لاقفال مكتب قناة الجزيرة في مصر وطرد صحافييها على خلفية اتهامها بالانحياز لصالح مرسي أثناء ولايته الرئاسية وصولا إلى الاحداث التي أطاحت به.

الأحادية الصارمة التي شهدتها وسائل الاعلام المصري بمختلف أنواعها طمست النقاشات الأخيرة التي كانت تثيرها والأسئلة التي كانت تطرحها حول تردي الأوضاع المعيشية وحالة الإعلام واستقلاليته من الضغوط  وإقصاء الآراء المخالفة من منابر الاعلام الرسمي وغيرها من الموضوعات التي حولت برامج التوك شو إلى نوادي للعمل السياسي. فجأة بات عالمنا مثاليا لا يستدعي طرح تساؤلات ولو في ظل أحداث خطيرة في تداعياتها مثل رشق متظاهرين بالرصاص وهم يصلون، وفقا لرواية أنصار مرسي، أو التحقيق في مزاعم حول استخدام الجيش للقوة المفرطة ضد انصار مرسي في اعتصامهم.

سكت الاعلام عن  طرح الأسئلة منصرفا إلى الإشادة بالحياة الهانئة التي عادت للبلاد مستخدما الاسلحة ذاتها التي استخدمت في وصف شكواه في ظل النظام السابق: من ينتقد هو بالضرورة من “فلول” الاسلاميين الراغبين بالانقلاب على الثورة. مثيرو الشغب هؤلاء “يستأهلون” ما جرى لهم. حل “الامن الوطني” مجددا اهزوجة الاعلام مبررا للقمع وهو السلاح الذي طالما استخدم في ظل الأنظمة السابقة ضد منتقديها.

لم يكن كلام مقدم التوك شو في قناة اون تي في وتهديداته المباشرة للجاليتين الفلسطينية والسورية إذا ما أبدتا تأييدا للرئيس “المعزول” وحده مقذعا. بل كان أيضا رده في اليوم التالي و”اعتذاره” الذي لم يحمل بالفعل إلا تأكيدا لعنصرية موقفه اذ اعتبر المذيع ان الجمهور أساء فهم مضمون كلامه التوعوي فكان أن وصف ظلما بالعنصرية.

إنها إذن أبواق الشوفينية الوطنية الاعلامية وهي لا تقبل أي تعايش مع اختلاف في الراي ولو في ظل انقسام مجتمعي خطير انعكاساته واضحة. وإلى حين توقف عجلة الردح “الوطني” هذه، يصبح التوصيف الأدق لهذه الحالة الاعلامية باعلام المنابر.