“لا أسمع لا أرى لا أتكلم”، تلك هي القاعدة الذهبية التي يتبعها عز الدين الشعيبي، أحد نادلي كافتريا المجلس التأسيسي (البرلمان) الخمسة، خلال عمله اليومي ودردشاته الجانبية مع النواب والوزراء.

يحرص الشعيبي على ان تظل ذاكرة عشرين سنة أمضاها في العمل بهذا المشرب مخفية في جرابه. فهو يكتم الاسرار التي بلغته منذ عمله هذا المكان الذي كان يسمى “مجلس الشعب” في بداية التسعينات ثم أصبح يعرف بـ”مجلس النواب” إلى غاية 2011، السنة التي حمل فيها اسم “المجلس الوطني التأسيسي”.

“لا أسمع لا أرى لا أتكلم”، تلك هي القاعدة الذهبية التي يتبعها عز الدين الشعيبي، أحد نادلي كافتريا المجلس التأسيسي (البرلمان) الخمسة، خلال عمله اليومي ودردشاته الجانبية مع النواب والوزراء.

يحرص الشعيبي على ان تظل ذاكرة عشرين سنة أمضاها في العمل بهذا المشرب مخفية في جرابه. فهو يكتم الاسرار التي بلغته منذ عمله هذا المكان الذي كان يسمى “مجلس الشعب” في بداية التسعينات ثم أصبح يعرف بـ”مجلس النواب” إلى غاية 2011، السنة التي حمل فيها اسم “المجلس الوطني التأسيسي”.

لكن هذا الحرص يتلاشى إن تعلّق الأمر بتفاصيل يقدر أنها “لاتضر”، وهي ليست بالكثيرة. فهو يتفادى مثلا الحديث عن الصراعات الدائمة في اللجان التأسيسية أو في أشغال المجلس، وإن تطرق إليها فبالإشارة إلى تضارب الروايات بين الأحزاب من أجل “لعبتها السياسية”.

أما بخصوص مسودة الدستور ورأيه فيها فيقول “لا رأي لي”، ولو أنه يضيف أنه يعلق آمالا كبيرة على الدستور ويطمح أن يكون دستورا  لكل التونسيين “يجمع الكل ويضمن للتونسيين الركائز الاساسية للعدالة، دستور لشعب وليس لطائفة”. فتونس في نظر الشعيبي، وهو الذي عايش “الظلم والدكتاتورية”، “شعب موحّد مسلم لا خوف عليه إلا من عودة الدكتاتورية وإن كانت بأجمل الاثواب”.

الشعيبي يؤكد أنه أمضى سنوات “يعمل مع النظام القائم” دون أن يعاديه أو ينخرط فيه “ليغنم منه مكسبا”، بل كانت علاقته بالمسؤولين مقتصرة على “القهوة والشاي الأخضر”. وكان على حد قوله، يتجنب غضبهم، لكنه في الوقت نفسه يقر بأنهم “لم يهينوا يوما عاملا او موظفا بالمجلس”.

“في السابق كانت أشغال المجلس مسرحية”، يبدأ الكهل المشارف على عتبات الخمسين سنة توصيفه لعمل المجلس، وكأنه يفشي سرّا.

فهو يتذكر جيدا ان القرارات والقوانين كانت ترد على مجلس النواب من قصر الرئاسة بقرطاج وكان الجميع يذعن لها ولصاحبها زين العبدين بن علي الذي اطاحت به احتجاجات شعبية في كانون ثان/جانفي 2011. وعلى امتداد 16 سنة اقتصرت اشغال مجلس النواب على مناقشة ميزانية الدولة وعقد جلسات عامة سنويّة تعد على أصابع اليد الواحدة. وقد كانت تعمل على تكريس “هيمنة الحزب والرئيس”.

لكن لهذه “المسرحية” حسناتها في نظر “العياري”، وهي الكنية التي طغت على اسمه.  من بين الإيجابيات في نظر عامل المشرب، أن أعمال المجلس في حقبة ترؤس فؤاد المبزع له في العشرية الأخيرة لحكم بن علي، “كانت اكثر تنظيما و اقل تعبا وارهاقا”، أما مساوئ تلك الحقبة في اعتقاده فهي أن “الجميع خائف وكلهم غير قادرين على التعبير عن أرائهم مثلما هو الحال عليه اليوم”.

الشعيبي الذي كان يتجنب طوال سنوات الحديث عن السياسة حتى مع أطفاله الاربعة بات اليوم يقارع “حكام” تونس بالحجة ويدافع عن حقوق العملة الذين انتخبوه لعضوية نقابتهم.

لكنه يعتبر أن حسنات الثورة ومكاسبها توقفت عند حرية التعبير عن الرأي ولم تشمل تحسين الوضعية الاجتماعية للعاملين في المجلس بل إنها اقتصت منهم “المنحة البرلمانية” ولم تفلح تحركاتهم الاحتجاجية في استعادتها.

يقف عز الدين خلف آلة إعداد القهوة منهمكا في غسل فناجين بيضاء ليقدم فيها قهوة فرنسية لزبائنه الذين صادف أنهم قل أن يتوافقوا حول رأي، مثلما يجمعون على الاقرار “بصنعة” العياري وقدرته على سقيهم قدحا من الشاي الاخضر “الأشهى في تونس” حسب ما أكد لـ “مراسلون” كل من سلمى مبروك وفريدة العبيدي عضوتا  المجلس التأسيسي عن أحزب الحكم والمعارضة.

بعد الثورة، عايش “العياري” طيلة سنة ونصف تنافس أبرز الفرقاء السياسيين في المجلس التأسيسي، على كسب ود الأعضاء المستقلين للتصويت لصالح مشروع قانون من مقترحهم أو ضده. ولكنه يمتنع عن سرد تفاصيل المفاوضات او كشف مضمون الوعود التي استمع اليها.

حتى تلك الخلافات خلف الأبواب المغلقة، التي يمتلك عز الدين فحواها، تظل حبيسة “بئر أسراره”، فهو وإن أقر بأن كل طرف في المجلس التأسيسي يدافع عن “مصالحه” حكومة ومعارضة، فإنه امتنع عن تحديد ماهية المصالح التي يشير اليها مثلما امتنع عن تحديد المسؤول عن “التعطيل” الذي يقر به في أشغال المجلس التأسيسي رغم تشديده ان الأخير يشتغل بكل طاقته.

حفظ العياري لسر نواب أو وزراء توافدوا على المشرب وباتوا طيلة سنة من زبائنه بعد ان تعددت جلسات مساءلتهم، اكتسبه من خبرة طويلة في العمل، ليكون من بين قلة اشتغلت في المجلس تحت رئاسات ثلاث، اثنتان منهما كانت لمجلس النواب والثالثة كانت رئاسة المجلس التأسيسي.

لكن ما يثير غضب العياري وتذمره، هو نسق العمل، إذ يشتغل منذ الثامنة صباحا إلى ساعات متاخرة من الليل، يسقي أهل السياسة ليطرد عنهم ثقل النوم الذي بات يشتكي هو من أنه محروم منه مثلما حرم من الراحة. فهو لسنتين لم يأخذ إجازة ولم يرتح يوم السبت مثلما كان يفعل في الماضي وكل ذلك “مكره عليه لا بطل” كما قال.

عز الدين الشعيبي حافظ على ما دأب عليه منذ اشتغل في المجلس سنة 1993 لا يفشي سرا ولا يقدم موقفا منتقدا، فهو “عامل لا يستشيره أحد في السياسة”، وهو كالماء مؤهل ليتخذ شكل الاناء الذي يعمل في ظله و”لا ذنب له” ان كان ذلك الاناء “دكتاتوريا”، فقاعدة عمله هي ان يخدم من امسك بالسلطة اليوم وغدا اي حزب اخر. لكن المفيد بالنسبة له ان “لا يوصف بانه من ازلام النظام”.

استماتة عز الدين في الدفاع على انه “موظف” وليس سياسي ليكون له ولاءات يغيرها وفق الظروف رافقتها سخرية ممن أسماهم “ثوريّو الساعة 25” وهم زملاء له من موظفي المجلس الثلاثمائة كان بعضهم مستميتا في الدفاع عن النظام السابق قبل ان يعدل كفته ليدافع اليوم وبشدّة عن حركة النهضة.

أما هو فيرفض أن يوالي النهضة أو يعاديها لأنها “اليوم في الحكم وغدا خارجه” كما قال. وهذا الموقف يؤكد العياري انه ابلغه للقيادي بحركة النهضة سمير ديلو يوم زار الموظفين ليتفاوض معهم من أجل إلغاء إضراب كان مقررا.

ويشير العياري لـ “مراسلون” أنه لا يحلم بأن يكون أحد أبنائه الاربعة عضوا في مجلس الشعب القادم ولكنه يحلم ان تصبح البلاد ديمقراطية ومتطورة “لا يأكل أهلها من القمامة”، وبأن “تكون تونس سنة 2020 مثالا يحتذى به”.

تلك هي أحلام رجل بسيط في برلمان بلدٍ تتواصل أزماته. ومع أن مؤهلات العياري توقفت عند نجاحه في السنة الثالثة ثانوي، لكن هذا مستوى علميّ لم يبلغه عدد من أعضاء المجلس التأسيسي.