يريد البعض أن يُطلق على الثورة التونسية صفة “ثورة من طابع خاص” لتبرير عدم حسم أصحاب المصلحة في الثورة من فئات سياسية واجتماعية محرومة نتائج الثورة لصالحهم.

فبعد تجاذبات الأيام الأولى التي تلت هروب أو تهريب رأس النظام أعادت المنظومة القديمة ترتيب بيتها وتمت التضحّية بمجموعة منها لتتسلم مجموعة أخرى مقاليد الأمور.

يريد البعض أن يُطلق على الثورة التونسية صفة “ثورة من طابع خاص” لتبرير عدم حسم أصحاب المصلحة في الثورة من فئات سياسية واجتماعية محرومة نتائج الثورة لصالحهم.

فبعد تجاذبات الأيام الأولى التي تلت هروب أو تهريب رأس النظام أعادت المنظومة القديمة ترتيب بيتها وتمت التضحّية بمجموعة منها لتتسلم مجموعة أخرى مقاليد الأمور.

في الجهة المقابلة ودون القيام بالمراجعات الفكرية والسياسية اللازمة لبناء الكتلة التاريخية نظمت القوى السياسية المعارضة للنظام المنهار من يساريين وقوميين وإسلاميين اعتصام القصبة 2 وطالبت بمجلس تأسيسي يقطع نهائيا مع المنظومة القديمة ويرسم معالم تونس جديدة.

 إلا أن المنظومة القديمة ناورت مرة أخرى وسلّمت السلطة إلى”أبنائها البررة”، فتم تعيين الباجي قايد السبسي رجل بورقيبة الوفي رئيسا للحكومة، وتسلّم فؤاد المبزع رئيس برلمان بن علي مفاتيح قصر قرطاج.

وخلال كل الفترة الفاصلة بين 14 كانون ثان/ جانفي 2011 و23 تشرين أول/ أكتوبر 2011 كانت “خلية الأزمة” التي شكّلتها المنظومة القديمة بتعاون مفترض مع جهات خارجية غير مرتاحة لتطورات الأوضاع في تونس، وكانت تفكر بعد خيبة أمل نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 وعدم فوز الخيار القريب منها المتمثل في القوى اليسارية والليبيرالية في البحث عن “المنقذ”.

وبعد وعود عديدة أطلقها الباجي قايد السبسي بمغادرة الحياة السياسية إثر تسلّم الحكومة الجديدة مقاليد الأمور تراجع هذا الأخير، ربما لتقدير القوى القديمة خلو الساحة من شخصية قادرة على مواجهة حركة النهضة وإلحاق الهزيمة بها في الانتخابات المنتظرة خريف السنة الحالية، شخصية تكون لها القدرة على استثمار الشبكة التجمعية النائمة في معارك سياسية انتخابية تتطلب حضورا ميدانيا في كل شبر من أراض تونس.

وفي قراءة  لنتائج انتخابات أكتوبر 2011 يبدو أن قوى سياسية نخبوية يسارية أساسا قدرت أنه لا إمكان لمواجهة حركة النهضة دون إعادة إحياء تحالف 1989 حيث التقى التجمعيون وجزء كبير من اليسار من أجل تدارك نتائج انتخابات نيسان/ أفريل 1989 التي أبرزت قوة إسلاميي حركة النهضة. ورغم أن نتيجة ذلك الخيار كانت أكثر من عشرين سنة من الدكتاتورية فإن ديكتاتورية “مدنية” أفضل بكثير من ديكتاتورية “دينية” حسب رأي تلك النخب.

لقد تطلب تشكيل الحزب القادر على القيام بأعباء هذه المهمة قيام قائده بجولة دولية لحشد دعم ضروري، فأعجب الأمير السعودي الملياردير الوليد بن طلال بأفكار الباجي قايد السبسي على حد قول هذا الأخير، وحصلت لقاءات مع رجل الأعمال والإعلام والسياسي الايطالي سلفيو برلسكوني وغيره من الشخصيات الاوروبية.

 وبعد تحضيرات محلية كبيرة تم تأسيس حزب “نداء تونس” مع توفر دعم عديد رجال الأعمال وإسناد إعلامي هام يقدم قائد هذا الحزب كمنقذ من الخراب الذي تدفع الترويكا الحاكمة البلاد إليه. قائد يحاول استثمار رصيد بورقيبة الشعبي من جهة ومن جهة أخرى يستدر تعاطف النخب التونسية الخائفة على مصير نموذج تونسي حداثي في تغوّل ما يعتبرونه أصولية دينية متشدّدة.

وفعلا يلاحظ المتابع الجيد أن القاعدة الاجتماعية لهذا الحزب هي متكونة في دواخل البلاد والأحياء الشعبية من التجمعيين السابقين،  أما في المدن والأحياء الراقية فهي متكونة أساس من أثرياء التجمع والنخب اليسارية غير الراديكالية.

ولمزيد حشد الدعم لهذا الحزب/ الماكينة الذي تلاحقه لعنة التجمع، تقدّم رئيسه الباجي قايد السبسي للترشح لانتخابات الرئاسة وقد بلغ من العمر عتيّا. فبعد نجاح الإعلام النوفمبري (نسبة إلى 7 تشرين أول/ نوفمبر1987 تاريخ استيلاء بن علي على السلطة) في نحت صورة لتونس المنهارة لا بد من منقذ وإن تمّ جلبه من الماضي البعيد.

ورغم أن النخب اليسارية المتحررة من فوبيا النهضة عبّرت عن عدم ثقتها في جلاد الأمس ورغم أن عديد القوى القومية استفزها ظهور من تعتبره أحد أكبر معاوني بورقيبة في التنكيل باليوسفيين فإن وسائل إعلام نوفمبرية عديدة تقدّمه على أنه رجل الدولة الذي سينقذ انهيار تونس إلى نمط اللا دولة.

إلا أنّ المتابعين الجيدين للأوضاع  والعارفين بخفايا إدارة الصراعات الانتخابية يعتبرون ترشّح الباجي قائد السبسي للانتخابات الرئاسية مناورة ذكية من القوى التي تفكّر لحزب المنظومة القديمة، حزب نداء تونس، لحشد مزيد من الأنصار للحزب وخاصة للمرشح الحقيقي الذي سيتقدم فعليا باسم هذا الحزب أو التحالف الذي سيشكله للانتخابات الرئاسية لمنافسة مرشح تقدّمه حركة النهضة أو تدعمه.

 والباجي قايد السبسي رجل طاعن في السن والتونسيون اكتووا سابقا  بخرف بورقيبة في آخر عهده بالحكم ولا نظن انهم سيلدغون من الجحر نفسه مرتين، ولا نظن القوى التي تقف وراء حزب نداء تونس بغافلة عن هذا المعطى.

 فالسبسي ليس سوى وقود مرحلة بالنسبة للمنظومة القديمة وعرّابيها، وطبعا لكل مرحلة رجالها.