في 17 ديسمبر/كانون أول 2010، أقدم محمد البوعزيزي، في مدينة سيدي بوزيد (وسط تونس)، على إضرام النّار في جسده، احتجاجاً على وضعه الاجتماعي. توفّي البوعزيزي متأثّرا بتلك الحروق، وأجّجت وفاته الأحداث التي أنتجت الثورة التونسية والربيع العربي. لكن الصّورة الملتهبة التي نشرتها وسائل الإعلام، أذكت شرارتها الاحتجاجات بعد الثّورة، لتحوّل إحراق النّفس إلى رمز للاحتجاج والغضب ليس في تونس فقط، وإنما في بلدان عربية أخرى. 

في 17 ديسمبر/كانون أول 2010، أقدم محمد البوعزيزي، في مدينة سيدي بوزيد (وسط تونس)، على إضرام النّار في جسده، احتجاجاً على وضعه الاجتماعي. توفّي البوعزيزي متأثّرا بتلك الحروق، وأجّجت وفاته الأحداث التي أنتجت الثورة التونسية والربيع العربي. لكن الصّورة الملتهبة التي نشرتها وسائل الإعلام، أذكت شرارتها الاحتجاجات بعد الثّورة، لتحوّل إحراق النّفس إلى رمز للاحتجاج والغضب ليس في تونس فقط، وإنما في بلدان عربية أخرى. 

أظهرت الإحصائيات أن حالات الانتحار في تونس ارتفعت بعد الثورة، إذ بلغت منذ يناير/كانون ثان 2011 إلى الأشهر الأخيرة من السنة الجارية (2012)، 405 حالات. وقد بلغت هذا العام 221 حالة، أي بمعدل 19 حالة وفاة شهرياً و20 محاولة انتحار. وحسب الاحصائيات الرّسمية تشمل هذه الظاهرة نحو 53 ٪ من الشباب، كما تشمل بقية الفئات العمرية حتى الشيوخ (الأعمار من 15 إلى 70 سنة).  

وتعدّ أول وسيلة متداولة للانتحار في تونس الشنق، تليها حرق النفس التي ظهرت قبل حادثة البوعزيزي لكنها زادت انتشاراً بعد الثورة في رغبة من المنتحر للفت الانتباه إلى مأساته؛ ففي سنة 2011 بلغت نسبة الانتحار حرقا خلال الأشهر الستة الأولى حوالي 63 ٪ من مجمل حالات الانتحار في ذاك العام.

انتحار صاحب عربة خضار قبل 18 عاماً

في القيروان، (160 كلم وسط تونس)، عمد عدد كبير من المواطنين إلى إضرام النّار بأنفسهم للتعبير عن الاحتجاج أو للفت النظر إلى مطالبهم أو تعبيراً منهم عن الغضب، وأحياناً نتيجة “اليأس” من الوضع الاجتماعي. وقد رصد موقع “مراسلون” في القيروان حالات مختلفة بلغ بعضها درجة الوفاة، في حين أصيب آخرون بجروح خطرة، بينما تم إنقاذ حالات أخرى. 

قبل البوعزيزي بـ18 عاماً، عرفت القيروان حالة مماثلة لحالة البوعزيزي، بحيث عمد تاجر الخضار (مختار الجوّادي) سنة 1993، إلى إضرام النّار بنفسه أمام مركز للشرطة، بعد أن صادر موظفو البلدية ميزانه ومنعوه من الوقوف بعربة الخضار وسط حيّ الحجام بالقيروان. 

آنذاك توفّي الكهل متأثراً بحروقه، ولم تنل القضية حظها إلا بعد الثورة، عندما كبرت تلك الطفلة التي تركها والدها مريضة وهي في ربيعها الثاني. وعادت بعد مرور 18 عاما، تفتش عن الحقيقة في أروقة المحكمة. سلاحها حزمة من محاضر البحث وشكاوى عدلية وشهادات شهود، ولا غاية لها سوى كشف الحقيقة وإماطة اللثام عن الحادثة التي تعرض إليها والدها في سنة 1993، وهضم حقه وتيتم طفلته الوحيدة وترميل زوجته وهي في ريعان شبابها. مكان وقوف عرته احتله آخرون بعد وفاته قبل الثّورة وبعدها، كأنّه مهّد لهم الطّريق كما مهّد البوعزيزي طريق الثورة للشعب التونسي.

بعد هذه الحالة بسنوات وقبل 14 يناير/كانون ثان وتحديدا سنة 2008، أقدم شاب على إحراق نفسه أمام المحكمة الابتدائية بالقيروان احتجاجاً على حكم قضائي لم ينصفه. وقد توفي الشاب متأثراً بحروقه. 

أمّا بعد الثّورة في تونس، فقد شهدت عدة مناطق بولاية القيروان عدداً من الحالات المماثلة لما أقدم عليه البوعزيزي. وحسب ما سنقدمه بشكل تسلسلي منذ الثورة، فإنّ هناك حالات فردية معزولة مرتبطة بظرف خاص: مثلما حصل بمعتمدية نصرالله (45 كلم جنوب القيروان)، وأخرى تمت بشكل جماعي، وهذا حدث في حاجب العيون (70 كلم غرب القيروان) وفي معتمدية السبيخة (30 كلم شمال مدينة القيروان). 

بعد 14 جانفي في سجلّ الشهداء

حسب الترتيب الزمني بداية من 14 يناير/كانو ثان، فإن ما حصل يوم 15 يناير/كانون ثان 2011  بمنطقة الشوائحية (الشراردة بالقيروان) لا يختلف عما فعله البوعزيزي قبل أقل من شهر، وبعد يوم من انتصار الثورة وهروب الرئيس بن علي، فقد أقدم شاب على الانتحار حرقاً بعد خلاف مع أعوان الحرس الوطني، إذ أقدم على صب البنزين على جسمه. وقد تم نقله إلى مركز الحروق البليغة ببن عروس وتمكّن من النّجاة.

أما ما حصل في معتمدية “نصرالله” (جنوب القيروان)، فلا يختلف كثيراً عن الذي حصل للشاب البوعزيزي في سيدي بوزيد، حيث عمد شاب (في العقد الثالث يدعى فايدي) إلى صب البنزين على نفسه خلال شهر فبراير/شباط 2011، وأضرم النار في جسده أمام مركز الشرطة بالجهة. وقد حمّل أقارب الشّاب المتوفّى المسؤولية لأعوان الأمن، نظراً لكونه أحرق نفسه بعد عملية مداهمة لمنزله من أجل إيقافه في قضية حق عام. 

ويقترب وجه الشبه بينه وبين البوعزيزي بعد أن تم إدراج اسمه على لائحة شهداء الثورة. وحصلت أسرته الفقيرة على تعويضات مالية مثل بقية شهداء الثورة. 

في منطقة أخرى تابعة لولاية القيروان، وتحديداً وسط مدينة حاجب العيون، شهدت المدينة حالة وفاة شاب (17 سنة) حرقاً، إثر إضرام النار في نفسه خلال شهر يونيو/حزيران 2011. وهو شاب كان يعمل في مخبز والده. وكانت تلك الحالة الخامسة، ثم تتالت حالات إحراق النفس. 

وتبدو الأسباب في البداية غير معروفة، ثم يتبين أن بعضها مرتبط بخلافات أسرية أو عاطفية أو بسبب ظرف اجتماعي ما، كما حدث عندما أشعل خمسة شبان النار بأنفسهم في حاجب العيون،وذلك بعد أن صبوا البنزين على أنفسهم وإضراموا النار في أجسادهم. وقد تم نقلهم إلى المستشفى بعد تفطن الجيش الوطني لهم، وتعرض 4 منهم إلى حروق سطحية. ثم شهدت المدينة 4 حالات إحراق للنفس بشكل مماثل. 

شباّن يكرهون الحياة

فئة الشباب هي الأكثر إقداماً على محاكاة ظاهرة الشاب البوعزيزي. الوسيلة دوماً قارورة بنزين (ثمنها دولار واحد تقريباً) ومصدر النّار إمّا ولاعة أو أعواد كبريت. لكن حالة وفاة فتاة (23 عاماً) في مدينة القيروان مثلت استثناءً، فقد عمدت إحدى خريجات الجامعة إلى سكب مادة كيميائية سريعة الاشتعال على جسدها وأضرمت فيه النار ما تسبب في وفاتها بعد يومين من إقامتها بالمستشفى.

وكان يفترض أن تحمل ثورة الياسمين” في 14 جانفي نسمات الأمل ودوافع الحياة، لكن لا أحد يمكنه استقراء الدوافع والأسباب بشكل دقيق.

البعض يناقش الوفاة حرقاً من منظور ديني، ويسأل: “هل يعتبر من يحرق نفسه شهيداً؟”. تختلف المواقف والآراء والتأويلات دون أن تعود إلى الأسباب الحقيقيّة المختبئة وراء حالات الانتحار حرقاً أو محاولات الإقدام على الانتحار حرقاً.

فئة ثالثة من المواطنين، أمسكوا بقوارير البنزين وأمسكوا بالولاعة، لكنهم لم ينفذوا وعيدهم بإحراق أنفسهم. البعض يأتي إلى إدارة رسمية مبلّلاً بالبنزين، على غرار احتجاج حصل قبل 3 أشهر أمام منطقة الشرطة بالقيروان ولم يسفر عن خسائر بشرية. 

وفي 26 سبتمبر/أيلول 2012 شهدت معتمدية السّبيخة من ولاية القيروان حالة من التّوتّر والاحتقان على خلفية محاولة خمسة أشخاص الانتحار حرقاً، وذلك احتجاجاً منهم على انتداب خمسة عمال في المؤسسات التربوية دون أن تتم تسوية وضعهم.  

وفي ذات السياق التقينا رضا مراد، الذي عمد إلى سكب البنزين على نفسه في مقر ولاية القيروان ليطالب بتحسين ظروفه الاجتماعيّة، فقد أغضبه رفض السلطات الجهوية لمطلبه، فما كان منه إلا أن لجأ إلى الشروع في إحراق نفسه. بيد أن أعوان الجيش “أنقذوه” خلال شهر مارس/آذار 2011. ولم يخفِ رضا أنه فكر في محاولة انتحار ثانية بسبب أطفاله الخمسة، الذين لا يجد لهم مورد رزق حسب قوله.

تفيد الاحصائيات الواردة من وزارة الصحة التونسية خلال سنة 2011، أن المصابين بحروق بسبب الإقدام على الانتحار حرقاً أو الاصابات العادية، يمثلون 30 بالمائة من مجموع الوافدين على المستشفيات التونسية. ويمثل الرجال ما دون ثلاثين سنة نسبة 75 بالمائة. كما أن 85 بالمائة من محاولات الانتحار حرقاً نُفذت أمام حشود من الناس.