علاقتي بمصر ليست بسيطة أو حديثة، فمن حلق الواد حيث تربيت وعشت في تونس توطدت علاقتي كعربية بالموسيقي واللغة والسينما المصرية. زرتها من قبل وقضيت فيها نحو شهر، لكن إقامة السياحة والتواصل عبر تويتر تختلف تماما عن قرار الدراسة والاقامة فيها، هنا لا تكفي الخبرات السابقة الانطباعية ولا التصورات التي تشكلت عبر المنتج الإعلامي، هنا حدود جديدة لملامسة الواقع، وفصل ماهو مجاز عن ما هو معاش.

علاقتي بمصر ليست بسيطة أو حديثة، فمن حلق الواد حيث تربيت وعشت في تونس توطدت علاقتي كعربية بالموسيقي واللغة والسينما المصرية. زرتها من قبل وقضيت فيها نحو شهر، لكن إقامة السياحة والتواصل عبر تويتر تختلف تماما عن قرار الدراسة والاقامة فيها، هنا لا تكفي الخبرات السابقة الانطباعية ولا التصورات التي تشكلت عبر المنتج الإعلامي، هنا حدود جديدة لملامسة الواقع، وفصل ماهو مجاز عن ما هو معاش.

قراري بالالتحاق بمعهد الدراسات الافريقية التابع لجامعة القاهرة مرتبط أيضا بمغامرة على المستوى الأكاديمي، أي البحث في الدراسات السياسية عن استكمال وعيي الاعلامي، وهو قرار اتخذته بعد أن أفرزت الثورات العربية في مصر وتونس وضعا سياسيا يحتاج للدراسة المتأنية، وبعد تشجيع من أصدقاء مصريين جهزت شنطة سفري واستقبلتني صديقتي الصحفية التي تعمل في المشروع  الإعلامي نفسه بين مصر وتونس.

تسكن صديقتي التي استقبلتني بمنطقة شبرا الخيمة الشعبية شمال شرق القاهرة، ومنذ وصولي من مطار القاهرة واستقبال زوجها وطفليها المرحب، لم تعدم وسيلة مهذبة لتسهيل الانتقال إلى القاهرة، وأول ملامح التكيف مع الوضع الجديد هو ملابسي، تحديدا الخروج بملابس سهرة في اليوم التالي لوصولي لحضور عيد ميلاد صديق.

جلسنا نراجع شنطة ملابسي قطعة قطعة، وتلبستني الحيرة فملابسي وفقا حتى لمنطقتنا الشعبية في تونس تعتبر محافظة نوعا ما، لكن صديقتي وبعد ساعة من فرز الملابس وفقا للمواصفات المصرية اختارت ما لم اتخيله يوما ملابس للسهرة، واضطررنا إلى إجراء بعض التعديلات فيه ليصبح أكثر تغطية لأكبر مساحة من الجسد، ضجرت وكدت أن اعتذر عن الحفل وأنا أجد نفسي مضطرة لتقييد نفسي بهذه الطريقة.

لست ساذجة لهذا الحد، فأنا من تونس أتابع وأتناقش مع الجميع حول ظاهرة التحرش الجنسي المنتشرة في مصر في السنوات الاخيرة. وقد وفدت في مولدها الكبير: أي الاعياد ، وصديقتي اليسارية الصحفية حذرتني ولفتت نظري مبكرا إلى مجموعة من المحاذير لتجنبه، وحكت لي كيف أنهم تحرشوا بمظاهرة شاركت بها ضد التحرش، ورغم ذلك لم أتوقع أن تُكرم وفادتي بأن أكون ضحية له في اليوم الثالث لوصولي.

كنت أسير في شارع قرب وسط البلد حينما هاجمني موتوسيكل يحمل ثلاثة من الشباب، عبثوا في جسدي سريعا بمنتهي الغل في النهار وأمام السائرين صرخت فلم أجد إغاثة ممن شهدوا الواقعة، رفعت التليفون وحدثت صديقتي باكية، أمرتني فورا بالابتعاد عن المكان وركوب تاكسي يوصلني إلى مقر عملها.

كنت طوال الطريق أنظر لنفسي في مرآة السيارة. في تونس هناك التحرش باللفظ السمج أو الإشارة الجارحة، لكني للمرة الأولى أفهم ما كانت تعنيه ضحاياه عندما كتبوا شهادتهن. ثمة فعل انتقام سادي لا ترتبط فعلا بالشهوة، قد تكون الشهوة عنونانها لكن الأمر أعمق بكثير، أعقد وأفظع بكثير.

ماذا عني كتونسية قدمت من بلد صغير ثائر إلى بلد كبير ثائر هو الآخر، ماهي الحدود الجديدة مع دولة تعشق الاستبداد البيروقراطي التاريخي؟ لا أدعي هنا أن موقف المواطن التونسي من دولته عادل، لكن أن تقف طابورا في الخارجية المصرية مع المئات لإنجاز معاملة فيما الموظف المختص مشغول بمكالمة تلفونية، يعذب المحتاجين إلى كل دقيقة في بلد يحتاج التنقل فيه من شباك معاملة إلى الآخر يوما، هذا الانتظار لهو جديد وفارق. يتلظى متابعو الموظف الصامتون عن يأس في تغيير المؤسسات الحكومية منطقها الذل، وأنا معهم هنا في تجربتي الأولى.

في السفارة التونسية استقبلني الموظفون بترحاب، اجلسوني داخل السفارة في قاعة مكيفة يغلب عليها الصمت الاحترافي لمن ينجزون أوراق، لكن في نهاية القاعة ثمة باب مغلق، عندما فتحه الموظف التونسي ليتسلم من المصريين أوراق طلب التأشيرات تحولت لهجته، تحدث بمصرية قائلا بلغة القمع الفرعوني: “انتظموا في طابور، هذه سفارة وليست وكالة”. كان المصريون يقفون في صالة خارجية عارية إلا من مروحة سقف تطن، ويغلق عليهم من الداخل باب حديدي أقرب لمخازن تشوين السلع بالجملة.

بين هذين المشهدين تتمفصل حدود أخرى فرعية، ترحيب إدارة الجامعة وموظفيها بتونس والحاضرين منها، احتفاء يكاد يلامس الفخر بتشريف اهل تونس القاهرة بالدراسة، أو حدود تهذيب البسطاء في التعاملات اليومية حين ينادونني استاذة بمنتهي الرقة، وهي لفظة لم اسمعها من أحد في تونس، المصريون البسطاء يشبهون ما عرفناه عن مصر.

رحلة البحث عن سكن كانت عتبة أخري لفهم الحدود الجديدة، فمواصفاتي لسكني القاهري بحدود إمكاناتي المادية المحدودة وبداية فهمي للمجال العام في مصر، تطلبت مني أن أبحث في مناطق على الحدود بين المناطق الشعبية، حيث غالبا لن يتفهم الناس فكرة التونسية العزباء الساكنة وحدها، والمناطق الغنية، حيث غالبا ما يتواطئ الجميع طالما ستدفع ثمن الوجاهة الاجتماعية. وكعادة ربكة التوسط القيمية، واجهتني الحدود بربكتها، فحي فيصل القريب من الجامعة هو نموذج تقليدي لمجمل الخطوط المتشابكة.

“أنتي ساكنة لوحدك…لا ماينفعش أحنا بنسكن أسر” هكذا واجهني العديد من أصحاب السكن بالتهمة المدموغة ضمنيا في هذا الرد، كونك أنثى عزباء، يعني ضمنيا الشك في سلوكك. بل أن من تجاوز هذه العتبة ولو تهذبا أو شوقا لتأجير الشقة كان غالبا ما يقر بجملة واحدة حدود السكن: “إنتي فاهمة بقي …مش مسموح استقبال حد عشان الجيران والمشاكل”، أما من تجاوز كل هذه المقدمات باحترافية فكانت مصيبته أنه فلول.

صاحب الشقة الاخيرة استقبلنا في مكتبه أسفل صورة كبيرة لأحمد شفيق، المرشح السابق للرئاسة، وظل يردد وهو يشير إليها بأنه ليس من الاخوان أو”العيال بتوع التحرير”, منظره لا يبدو مريحا، لكنه الوحيد الذي استقبل أسئلتي عن الشارع وحدود علاقة الجيران ببعضهم البعض بأريحية، فمن سمسار إلى آخر قلصت احتياجاتي عند حدود اختيار أو ضمان ألا يتدخل الجيران في حياتي بالمراقبة أو التقييم، ورغم نفوري من صاحب الشقة إلا أن ضمانة هذه المواصفات فيه جعلتني أتغاضى عن مواقفه السياسية المعادية لما جئت منه وإليه.

حتي هذه اللحظة يبني الناس انطباعاتهم عني إما عن طريق مظهري الذي تفغر له الأفواه في المواصلات العامة النادرة التي اركبها، أو من جنسيتي التي تقلل نسبيا من سوء الفهم وتكون مدخلا للمقارنة بين الثورتين، لكن أن تصل الشكلانية وتشييئ إلى مستوي أن أخاف من إسمي فهو القسوة بعينها.

اكتشفت الأمر بالصدفة في مستشفي نقلت له أثر اصابتي بتسمم في اوائل عتبات التكيف مع الطعام المصري، في استقبال المستشفي أملى صديق لي اسمي “خلود” وليس “خولة”. لاحظت لأول مرة أنهم سجلوا اسمي رسميا بما أعتاد أصدقائي المصريين مناداتي به أو تعريفي بالغرباء. فهم كانوا قد لفتوة انتباهي إلى مدلول تذكير الاسم في الدارجة المصرية(والذي يعني مثلي جنسيا)، لكن أن يؤخذ الامر بجدية إلى حدود تسجيلي به في المستشفي فهذا يعني أن الأمر محرج حتى لمن يمليه في موقف لا يحتمل الهزل، خاصة وأن معني خولة تعريفا في اللغة اصبح كالمعلومات الويكيبيدية كلما صممت على استخدامه.

قد تكون هذه الانطباعات متسرعة، أو أكون حساسة غالبا بفعل الاغتراب لأي حدود مصطنعة أو إجرائية. وقد اكتشف لاحقا حدودا جديدة أكثر تعقيدا، لكن  في حدود الأسبوعين الأولين لإقامتي اكتشفت حدودا للتعريف لم أكن اتخيل أنها واردة، على الرغم من علمي بها مسبقا، فالسمع شيئ وتلمس تلك الحدود على جسدك وجلدك وعينيك وقلبك هو الجديد. لم أُصدم كثيرا وكلما زال حد بحكم التجربة أصبحت أكثر إصرارا على اسقاط الحدود المتخيلة، لا بالتوافق معها بل بتحطيمها، فأنا وحدي من يحق له وضع حدود للعالم من حوله، والعالم سواء في مصر أو تونس سيبقي خريطة أرفض ألا أكون فيها دليلا على طريق جديد.