يروي المحامي مقران آيت العربي في كتابه “عدالة القصر” واقعة يتذكر تفاصيلها بدقّة ونقلا عن حوار قصير دار في محكمة عنابة بين الوزير الأوّل أحمد أويحيى -الّذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة في الوقت الذي توبع فيه إطارات الشركة العمومية للحديد والصلب “سيدر” بتهم فساد باطلة إذ برأتهم العدالة فيما بعد-، و مسعود شطيح، الرئيس المدير العام ل”سيدر” وأحد المتهمين في القضية، أن أويحيى الشاهد في القضية قال له: “أنتم ضحايا نهاية مرحلة تاريخية و بداية أخرى“.
يتكلم أويحيى هنا عن الانتقال من الاقتصاد الموجّه نحو اقتصاد السوق والتحرير التدريجي للتجارة الخارجية والمبادرة الاقتصادية ابتداء من سنوات التسعينيات و ما حدث في بدايات المرحلة الجديدة من تدمير للقطاع العمومي لفائدة المحظوظين من الخواص الذين عوضوا الشركات العمومية في عديد القطاعات الاقتصادية بدعم من أصحاب القرار في تلك الفترة. تحويل الرّيع حصل في ظروف لا تزال غامضة لم يتردّد خلالها المستفيدون منه حتى في الزّجّ بالأبرياء في السّجون. تميّزت هذه الفترة بخصخصة مئات الشّركات العمومية وغلق آلاف الشركات الأخرى. كان أويحيى من قاد العملية وواجه الجبهة الاجتماعية التي كانت تعاني بسبب الارهاب و تدني ظروف المعيشة بحماسة المقتنع و تحمل سياسيا تسريح مئات آلاف العمال، متباهيا بأنّه صاحب المهمّات القذرة خدمة للصالح العام.
في واقعة أخرى تعود للسنوات القريبة الماضية، يسرد أحد رجال الأعمال ل “مراسلون” ، أنّ أويحيى قال لصاحب مجمع “سيفيتال” يسعد ربراب الذي طلب مقابلته بعد رفض الإدارة منحه التراخيص اللازمة لأجل مشروعه في بناء ميناء في “كاب جنات” بولاية بومرداس، أن “عقلية الدولة الجزائرية مازالت لا تتقبل التنازل عن مثل هذه النشاطات للخواص“. نفس المسؤول كان قد نسّق إعداد قانون المالية التكميلي لسنة 2009 و الذي جاء بكثير من القيود في محاولة لضبط السوق اعتبرها المتتبعون للشأن الاقتصادي في الجزائر عودة غير معلنة عن خيار اقتصاد السوق. وقبل إعداد هذا القانون وضع أويحيى عملية خصخصة الشركات العمومية التي كان يديرها وزير الصناعة وترقية الاستثمار عبد الحميد طمار تحت إمرته، بين قوسين. و بعد إقالته من رئاسة الحكومة في 2012، ندّد بممارسات مافيوية للقوى المتحكّمة في السوق و بتغلغلها في دواليب الدولة في تصريح ناري فهم منه في ذلك الوقت أن هذه القوى هي من كانت وراء إقالته.
هذا الفصام لدى أويحيى، الذي نعته الصحفي محمد بن شيكو، صاحب جريدة “لوماتان” والتي منعت من الصدور في بداية العهدة الثانية للرئيس بوتفليقة ب “السكين السويسري للنظام الحاكم“، يبرز بوضوح فصام الدولة و الحرج الذي تجده في تحرير المبادرة الاقتصادية. وإن أقبلت على تحرير كثير من القطاعات الاستراتيجية فهي لا تزال تسيّر الفنادق و النزل. عاد أويحيى مؤخرا إلى رئاسة الحكومة و قبلها بأشهر صرح خلال تجمع شعبي لحزبه، التجمع الوطني الديمقراطي، نظم بقاعة حرشة حسان بالعاصمة الجزائر، أن خصخصة الشركات العمومية في بعض القطاعات أمر لابد منه. وإذ يعبّر أويحيى اليوم بتغييره لرأيه فيما يتعلّق بالخصخصة عن توجيه جديد من القمّة، يعود هذا الفصام لأسباب سلطوية.
بوتفليقة و تضخيم الصّفوف
كرّس آخر تعديل للدّستور الجزائري المساواة بين القطاعين العمومي و الخاصّ. وظاهريا، يعدّ هذا تطوّرا كبيرا في العقلية الاقتصادية للدّولة الجزائريّة. لكن ما تجدر الإشارة إليه، هو أنّ الدّولة الجزائريّة لم تتمكّن أبدا من كتابة قواعد واضحة للّعبتين الاقتصادية والسّياسيّة و لا من فرض احترام القواعد الموجودة. وهذا منذ إقرار الانفتاح التّجاري مطلع التّسعينيات.
فعلا، فقد تهافت الكثير من الناس على قطاع المال والأعمال خلال العِقدين المنصرمين الذين تميّزا بارتفاع مداخيل البلاد جراء المستويات القياسية لأسعار المحروقات في الأسواق العالمية وسياسة توزيع الرّيوع المتّبعة من طرف السّلطة السّياسيّة من أجل شراء السِّلم الاجتماعيّ. و فتح منطق السّلطة المتبّع من طرف أصحاب القرار الباب أمام من هبّ و دبّ من الانتهازيين و التفّ الوصوليون حولهم بتفاوت وعيهم السّياسيّ. وإذ لا تؤمن السلطة بمبادئ سياسية معينة، أصبحت أجهزة الدّولة أدوات لبسط السّلطة، تُتَّخذ الاجراءات تحت ستار العمل التنظيمي وضبط النشاط بهدف تفضيل رجل أعمال على آخر و تسهيل احتكاره لمصادر المال الأكثر ربحية. و أفضل مثال على ذلك إجازات الاستيراد التي تفصل شروط منحها على قياس الأحباب و الأصحاب وتقرّر من خلالها الإدارة و من ورائها السلطة السياسية من يتاجر بماذا في السوق المحلّية.
لهذا، وبالرغم من تطور الفئات المكونة للمجتمع الجزائري اجتماعيا و اقتصاديا، يجد الاتجاه الليبيرالي صعوبة في التّهكيل سياسيا. لم يواكب هذا التطور الاجتماعي والاقتصادي تقدّما فيما يتعلق بالجانب الفكري أو الأيديولوجي و لا تزال الحواجز الذهنية التي تواجه الانفتاح التجاري سائدة حتى لدى البعض ممن يناضلون من أجل مزيد من الانفتاح و الذين تعدّ غالبيتهم من الأثرياء الجدد، بنوا ثرواتهم في كنف البيروقراطية الّتي لها أفضال كبيرة عليهم. هم على كثرتهم متواجدون في مختلف الأحزاب السّياسية باختلاف حساسياتها و عقائدها الاقتصادية وثقافتهم على غرار عملهم السياسي مقطوعة عن أي أصول إيديولوجية. ممّ يجعل من وجودهم في أحزاب اشتراكية مثلا (أنظر إلى مقال: نواب المال والأعمال) تطفّلا على الثقافة الأصيلة لهذه الأحزاب، فهم ميّالون للقبول بالحلول الوسطى من أجل التقرب من السلطة. هذه الانتهازية التي تميزهم و إن وسّعت نفوذهم، لم تؤسّس لقوة سياسية قادرة على تبديل قواعد اللعبة. يبقى الحل والربط بيد الفريق الحاكم من السياسيين و العسكر.
الملفت للانتباه أن تقريب هؤلاء الانتهازيين من طرف السلطة شبيه بما عمد إليه مؤسِّسو النظام الحاكم غداة الاستقلال، عندما قام قادة جيش الحدود و الزمر الموالية له بتدعيم صفوفهم بعناصر متنافرة مشكوك في حِسِّها الثوري التحقت بالركب بعد وقف إطلاق النار في مارس 1962، من أجل مضاعفة عدد الأفراد الموالين لهم في سبيل الاستيلاء على السلطة. ويُديم الفريق الحاكم الحالي بقيادة عبد العزيز بوتفليقة الذي كان أول وزير للشباب والرياضة للجزائر المستقلة، نفس الأساليب وإن تبدلت صفوف الموالين. فنجد اليوم في خندق مسانديه من الاسلاميين ومن العلمانيين، من أرباب العمل و من النقابيين، أشخاص لا يتقاسمون أي قناعات و لا تربطهم سوى مصلحة ظرفية تتمثل في استفادتهم من الريع الذي تنتجه مساندتهم لما يسمى ب”برنامج الرئيس“. و هو برنامج ليس له ملامح واضحة و تتغير خطوطه العريضة بتغير مزاج صاحبه. يتجلى ذلك في ازدواجية خطاب منفذيه و “قناعات” أويحيى المتجددة خير دليل على ذلك. أما رجال الأعمال بمختلف منظماتهم فيتسابقون إلى تملق أصحاب الحل والربط. وتعطي خلافاتهم صورة كاريكاتورية عن فقرهم الفكري. ومثال ذلك تبادل الشتائم المتواصل بين رئيس “منتدى رؤساء المؤسسات” علي حداد و رئيسة “الكونفدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية ” سعيدة نغزة. ليس من أجل مبدأ أو قضية، فهُما لم يعملا سويا في سبيل تحسين مناخ الأعمال، و إنما بسبب الحظوة التي يتمتع بها علي حداد لدى أخ الرئيس بوتفليقة والتسهيلات التي يُمكنه منها قربه منه.